| | Date: Dec 12, 2018 | Source: جريدة النهار اللبنانية | | الرأسمالية الأميركية غير ناجحة - ديفيد ليونهارت | قبل وقت غير بعيد، أدرك قادة الشركات أن لديهم مصلحة في ازدهار البلاد.
تضمّنَ عدد تشرين الأول 1944 من مجلة "فورتشن" مقالاً بقلم مسؤول تنفيذي في إحدى الشركات، وهو مقال نستمد فائدة كبيرة من قراءته اليوم. كاتب المقال هو ويليام ب. بنتون – المؤسّس المشارك لوكالة الإعلانات "بنتون أند بولز" – ويرد في ملاحظة المحرر أن بنتون لا يتحدث فقط باسمه بل باسم مجموعة لوبي كبيرة في عالم الشركات. وقد عرضَ المقال رؤيةً لتحقيق الازدهار الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.
في ذلك الوقت، لم يكن أحدٌ تقريباً ينظر إلى الازدهار بعد الحرب على أنه من المسلّمات. كان العالم قد عانى لتوّه من 15 عاماً من الركود والحرب. وتخوّف أميركيون كثر من أن يؤدّي توقُّف الإنتاج الخاص بزمن الحرب، مقروناً بعودة الجنود الباحثين عن وظائف، إلى إغراق الاقتصاد في تباطؤ جديد.
كتب بنتون: "اليوم، النصر هو غايتنا. وغداً سيكون هدفنا الوظائف، والإنتاج في زمن السلم، ومستوى المعيشة المرتفع، والفرص". ولفت إلى أن ذلك الهدف يتوقّف على قبول الأعمال والشركات الأميركية بـ"التنظيمات الحكومية الضرورية والملائمة" وكذلك بالنقابات العمّالية. وكان يتوقّف أيضاً على عدم تحقيق الشركات أرباحها "على حساب رفاه المجتمع"، وكذلك على زيادة الرواتب والأجور.
لم تكن هذه الأفكار التي تبدو يسارية الطابع مدفوعةً بالغيرة على مصالح الآخرين. لقد أثار الركود الكبير وصعود الفاشية الأوروبية الذعر في نفوس مديري الشركات الأميركية. وتكوّنَ لدى عدد كبير منهم اعتقادٌ بأن الرأسمالية غير الخاضعة لضوابط تحمل مخاطر للجميع. كان عنوان مقال بنتون "اقتصادُ مجتمعٍ حر".
في الأعوام اللاحقة، اتّبعت الشركات الأميركية هذه الوصفة إلى حد كبير. بالطبع، لم يتقيّد بها جميع المسؤولين التنفيذيين في الشركات، واستمرت النزاعات المريرة بين المديرين والعمّال. غير أن معظم مديري الشركات تصرّفوا وكأنهم يهتمون لأمر عمّالهم ومجتمعاتهم المحلية. قبِل الرؤساء التنفيذيون بتقاضي رواتب تبدو اليوم زهيدة. وسجّلت مداخيل الطبقة الوسطى زيادة أسرع في الخمسينات والستينات بالمقارنة مع المداخيل في أعلى الهرم. تخيّلوا هذا الأمر: تراجعت عدم المساواة في المداخيل. وشهد الاقتصاد – والأعمال الأميركية – طفرة خلال تلك المرحلة، تماماً كما توقّع بنتون وزملاؤه الذين كانوا يتولّون إدارة الشركات.
بدأت الأمور تتغير في السبعينات. ففي مواجهة المنافسة العالمية المتزايدة والارتفاع في أسعار الطاقة، ومع اضمحلال ذكريات الركود الكبير، أصبح مديرو الشركات أكثر عدوانية. وقرروا أن مهمتهم الوحيدة هي زيادة القيمة التي يحصل عليها مالكو الأسهم إلى حدّها الأقصى. وقد خاضوا معركة من أجل إلغاء التنظيمات، وخفض الضرائب، والتخلص من النقابات في أماكن العمل، وخفض الرواتب والأجور، وزيادة رواتبهم إلى درجة كبيرة. وبرّروا ذلك كله بإطلاق الوعود عن طفرة اقتصادية جديدة رائعة. لكنها لم تتحقق مطلقاً.
حتى عندما كان النمو الاقتصادي مقبولاً، كما هو الحال الآن، ذهبت الحصة الأكبر من المنافع إلى الشريحة التي هي في أعلى الهرم. يسجّل متوسط الإيرادات الأسبوعية نمواً ضئيلاً جداً مع 0.1 في المئة سنوياً منذ عام 1979. صافي القيمة العائد للأسرة الأميركية اليوم أدنى مما كان عليه قبل عشرين عاماً. وما يثير الصدمة أن متوسط العمر المتوقع سجّل تراجعاً خلال العقد الجاري.
الجمود الكبير في المستوى المعيشي هو من المشكلات التي تطبع هذا الزمن. فمعظم العائلات لا تتمتع بـ"المستوى المعيشي ذي النمو السريع" الذي طالب به بنتون. ومن المفهوم أن عدداً كبيراً من الأميركيين يشعر بالقلق والغضب. من أجل إيجاد حل لهذا الوضع، يجب أن تُفرَض من جديد ضرائب أعلى على الأثرياء. إنما يستحق الأمر أيضاً عناء التوقّف عند المداخيل قبل الحسم الضريبي – وتحديداً ما يجري داخل الشركات. ويجدر تكرار السؤال الذي طرحه بنتون: ما هو نوع الشركات الذي يريده الأميركيون؟ تعمل السناتورة عن ولاية مساشوستس، إليزابيث وارن، على إعداد برنامجها الانتخابي انطلاقاً من قرارها شبه المحسوم على ما يبدو بخوض الحملة الرئاسية، ويتضمن البرنامج إجابة عن هذا السؤال. والجواب مدهش لأنه مختلف عن الأجندة الديموقراطية المعهودة القائمة على الضرائب التصاعدية والبرامج الاجتماعية الواسعة النطاق (التي تدعمها أيضاً وارن). الفكرة التي طرحتها هي الأكثر إثارة للاهتمام بين الأفكار عن السياسات التي بدأت تلوح في أفق الحملة التي انطلقت باكراً استعداداً لانتخابات 2020.
تريد وارن اقتصاداً حيث تستثمر الشركات من جديد في عمّالها ومجتمعاتها. لكنها لا تعتقد أن ذلك يمكن أن يتحقق تلقائياً، مثلما حصل في الأربعينات، لأن الأسواق المالية سوف تعاقب المديرين ذوي النيات الحسنة الذين سيتوقّفون عن السعي إلى زيادة الأرباح القصيرة المدى إلى حدّها الأقصى. قالت لي منذ فترة وجيزة: "لا يمكنهم العودة إلى الوراء. يجب القيام بذلك بناءً على قواعد معيّنة".
لقد بادرت وارن إلى اقتراح مشروع قانون في مجلس الشيوخ – وقريباً سوف يطرح بن راي لوجان، وهو من كبار الديموقراطيين في مجلس النواب، مشروع القانون داخل مجلس النواب الأميركي. يفرض مشروع القانون على مجالس الإدارة في الشركات أن تأخذ في الاعتبار مصالح العملاء والموظفين والمجتمعات المحلية. وبغية تحقيق ذلك، ينص على قيام الموظفين بانتخاب 40 في المئة من مقاعد مجلس الإدارة. إشارة إلى أن ألمانيا تُطبّق نسخةً عن هذا النموذج القائم على "الحوكمة المشترَكة"، وتنجح في ذلك إلى حد كبير. فحتى في الاقتصاد الشديد التنافسية في عالم اليوم، تُحقق الشركات الألمانية أرباحاً جيدة مع اعتمادها فلسفةً أقرب إلى فلسفة ويليام بنتون منها إلى فلسفة غوردون غيكو.
هل الخطة التي وضعتها وارن هي الطريقة الفضلى لكبح جشع الشركات؟ لست أكيداً بعد. أريد أن أرى السياسيين والخبراء يناقشون فكرتها وأفكاراً أخرى – مثلما ناقشوا سياسة الرعاية الصحية خلال حملة 2008.
لكنني أعرف أمراً: ليست الرأسمالية الأميركية ناجحة في الوقت الراهن. لو عاد بنتون وزملاؤه المديرون التنفيذيون الذين كانوا على رأس الشركات بعد الحرب، حاملين الأفكار نفسها في الزمن الراهن، لنُعِتوا بالاشتراكيين. في الحقيقة، هؤلاء كانوا الرأسماليين الذين اهتموا بما يكفي لأمر المنظومة سعياً منهم لإنقاذها. والأمر نفسه ينطبق على الإصلاحيين الجدد.
مدير مكتب "نيويورك تايمز" سابقاً في واشنطن
المصدر: "نيويورك تايمز"
ترجمة نسرين ناضر | |
|