Date: Dec 5, 2018
Source: جريدة الحياة
الحكومة العراقية.. اختناق سياسي دائم - مشرق عباس
عندما اعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر قبل اسابيع، اتفاقه مع زعيم كتلة "البناء" في البرلمان هادي العامري على انهاء الاختناق السياسي حول مرشح رئاسة الحكومة بالاتفاق على اسم عادل عبد المهدي، كان ثمة ارتياح عام الى ان انتكاسة كبرى لن تحدث على خلفية الصراع المستميت حول تعريف "الكتلة الأكبر".

لكن الاتفاق المذكور لم يكن اكثر من مبادرة فردية لم تكن تنقصها النيات الحسنة، بقدر الآليات السياسية، والثانية أكثر خطورة، ولهذا سرعان ما عاد الصراع الى نقطة الصفر، على اسماء الوزراء وخلفياتهم، وعلى آليات عمل الحكومة وترتيباتها.

والصورة التي ظهرت في خضم هذا الصراع، تكشف ان خللاً جوهرياً اصاب اليات تشكيل الحكومة على قاعدة غامضة وغير واضحة لاتفاق الصدر - العامري، فالقوى التي تصدرها الصدر، دافعت عن تمكين رئيس الوزراء نفسه من اختيار وزرائه، وفعل عبد المهدي ذلك بحصة قوى مثل "سائرون" و"الحكمة" و"النصر" و"الوطنية" وجميعها ضمن كتلة "الاصلاح"، فيما تمسكت كتلة "البناء" التي ضمت بالاضافة الى "الفتح" قوى سنية مثل "المحور" وكردية مثل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بترشيح ممثلين عنها للوزرات وكان لها ذلك. وهنا تحديداً، وبغياب القاعدة الواضحة لتشكيل الحكومة منذ تجاوز الاعلان عن "الكتلة الاكبر" ومن ثم تضارب المعايير لاختيار الوزراء، بان يكونوا مستقلين ام حزبيين ، تكنوقراط ام سياسيين، يختارهم ويتحمل مسؤوليتهم رئيس الحكومة ام تتحمل مسؤوليتهم الاحزاب التي رشحتهم، سقطت حكومة عبد المهدي في دوامة التأويل والصراع غير محدد الدوافع والاطراف حتى قبل ان تبدأ اعمالها.

الازمة الكبرى لاتتعلق بالحكومة بحد ذاتها، ولا الصراع الذي من المتوقع ان يندلع في اليوم التالي لانهاء تشكيلها، بعد تفكك التحالفات غير الواضحة التي قادت اليها، بل لأن الحرب السياسية المتوقعة بين كل القوى مع بعضها وداخلها ومع الحكومة ودفاعاً عنها، ستنعكس سريعاً على الشارع الملتهب وغير الواثق من ان تلك الاحزاب السياسية التي اطلعت على مخاطر انفلات الجمهور، قد فهمت بشكل حقيقي الرسائل التي وجهتها الاحتجاجات الشعبية، التي من المفترض انها ساهمت بشكل وآخر في رسم ملامح الحكومة الحالية.

اللعبة التي ستنخرط فيها القوى السياسية المدركة لضعفها وتفككها أكثر خطورة مما سبقها، حيث ستحاول اشراك الشارع في الصراع السياسي بديلاً عن محاولة تجنب الاحتجاجات، وهذا الخيار لو نفذ فعلاً، على ما تكشف المؤشرات اليوم والطريقة التي تم اختيارها لادارة العملية السياسية، فانه سيكون خطيراً بحسب أكثر القراءات تفاؤلاً، وقد نجد قريباً، ومع اول فشل متوقع في توفير الخدمات، او مواجهة ازمة الانهيار في اسعار النفط، نزول القوى السياسية الى الشارع لمحاولة اقتسامه، وتسييره، واستخدامه في فوضى عارمة ومميتة، سيكون بديلها الوحيد اجبار الشعب العراقي على القبول بالحمى الدائمة.

ألا يتبنى أحد حكومة عبد المهدي، سيعني اولاً ان البرلمان العراقي سيكون مشهداً درامياً لمعارضين لايعرفون على من يعترضون، وبماذا يطالبون، وسيعني ثانياً ان المشهد الشعبي سيكون نسخة مقحمة عن الصورة البرلمانية الشاذة، وهو الخيار الاكثر امناً الذي اختارته الاحزاب العراقية لحماية نفسها عبر تقاسم الشارع بديلاً عن الاستجابة لمطالبه.

الحل الوحيد الممكن لدى الحكماء او ماتبقى منهم، هو فصل الجبهات اليوم وليس في أي وقت آخر، وتكوين جبهة معارضة صريحة ومعلنة وواضحة المعالم والاطراف والاسماء وغير مشاركة في الحكومة بأي شكل من الاشكال، في مقابل جبهة حكومية معلنة وواضحة بدورها، والبديل المستحيل لذلك ان تقوم القوى السياسية مجتمعة التي اتفقت على تشكيل الحكومة الحالية بتأسيس ائتلاف حكومي واسع وواحد لدعمها.

كتلتا "الاصلاح" و"البناء" كان يمكن ان تكونا بداية شفاء للعملية السياسية المريضة، لو كانتا التزمتا بناء قاعدة الاختلاف السياسي الصحية التي تعبر هذه المرة اعتبارات المذهب والقومية، الى المسارات والخيارات الخاصة بالدولة واستعادتها، لكنهما لم تفعلا ذلك، واختارتا الطريق المحفوف بالمخاطر الذي نسير فيه اليوم.