Date: Nov 23, 2018
Source: جريدة الحياة
مجتمعاتنا ليست طاردة للحداثة - خالد بريش
قليلة هي كتب الفكر العربي التي تتحفنا بها دور النشر هذه الأيام، وخصوصا تلك التي تغوص في عمق معضلاتنا، وتضيف حجرا في البناء الفكري، وعلى طريق إصلاح مجتمعاتنا وأوضاعنا، بعيدا عن الغوغائية، والديماغوجية، والبكائيات على الأطلال التي أصبحت ديدن معظم المفكرين والمبدعين شعرا وأدبا.

وإذا كان جل المفكرين والكتاب يخافون من الظهور على صفحات التواصل الاجتماعي متذرعين بأنها مضيعة للوقت، فما بالك بنشر افكارهم، وطرحها للنقاش الحر، وخصوصا تلك التي تُشكل نقاط اختلاف وجدلية. وهو ما فعله المفكر برهان غليون، حيث قام بطرح عدة موضوعات فكرية حساسة للنقاش على موقع « الحوار المتمدن »، قبيل انفجار الربيع العربي، في أواخر عام 2010 ودار حولها نقاش مع مجموعة كبيرة من المثقفين العرب.

فدشن غليون بذلك نهجا جديدا في الكتابة، والأمل أن يتبعه الآخرون وينزلون من أبراجهم العاجية. ولم يقف الموضوع عند هذا الحد بل قام بإصدار آرائه تلك بالإضافة إلى النقاشات التي دارت حولها في كتاب بعنوان « حول أزمة المجتمعات العربية، حوار مفتوح في الحداثة والديموقراطية والإسلام »، والذي صدر مؤخرا عن المركز الثقافي للكتاب في بيروت.

يتناول الكتاب أربعة مواضيع جد مترابطة ببعضها، ولكنها تبدو للوهلة الأولى متنافرة. وهي: الحداثة، والديموقراطية، والإسلام، والعلمانية، وذلك من خلال أربعة محاور:

1 – أزمة المجتمعات العربية والحداثة؛

2 – مسألة العلمانية العربية؛

3 – الديموقراطية وما بعد الإسلاموية والعلمانوية؛

4 – الإسلام والسياسة، والإصلاح الديني.

يختلف غليون في طروحاته مع المفكرين الغربيين، ومعظم اليساريين والعلمانيين العرب، الذين يعتبرون أن أزمات المجتمعات العربية هي علل أصيلة فيها، ناتجة عن ثقافتها، والتركيبة العقلية للأفراد، والأديان التي نشأت فيها منذ القدم، وبالأخص الإسلام. معتبرا أن الظروف الخارجية والداخلية، وما مرت به هذه الأمة من ظروف، سبب أساس فيما حدث، ويحدث بشكل عام. وأنه لا بد من فكفكة تلك الظروف وتحليلها لفهم الأسباب الرئيسة الكامنة في النكسة، أو الإخفاق الثقافي والفكري بعد توقف مسيرة التحول والتقدم التي بدأت مع بدايات القرن العشرين...

ويرد غليون على المنادين بالقطيعة الكاملة مع الماضي في كل أشكاله، ومع قواعد مجتمعاتنا، دينا وثقافة وتاريخا بأنهم يتجاهلون أن تقدم كوريا الجنوبية واليابان قد تم دون تلك القطيعة. وإنما تم من خلال عدم إدخال تلك الأمور في مسيرة التطور، دون رفضها بالمطلق. مستنكرا أيضا مقولة النخب المثقفة من أن مجتمعاتنا طاردة لكل مفاهيم التطور والتحضر، وكارهة لها، وأنها لن تتقدم نحو الأمام إلا إذا قلدت الغرب في علمانيته، وإباحيته، وتوحشه الاجتماعي. مؤكدا أن الحداثة منظومة سياسية متكاملة، وليست مطلبا شعبيا يتحقق من خلال تظاهرة.

هذا ويركز غليون على أزمة مجتمعاتنا، وقبولها للحداثة. مُرْجعا أسباب الفشل في الحداثة إلى جهل الشعوب العربية، وتخلفها ثقافيا، واصطدام المشروع الوطني بالمستعمر، وهيمنته. مما لم يسمح بتحقق السيادة الكاملة، وقيام الدول الصناعية الاستعمارية بالمستحيل للاستحواذ على النفط، والتحكم فيه استخراجا وبيعا، مما لم يساعد في تطوير البنى الاقتصادية والثقافية والعلمية. بالإضافة إلى الدور السيء لملوك الطوائف والعشائر. معتبرا أن مقاومة مشروع الحداثة لم تكن من جانب الشعوب، وإنما جاءت من ثلاث قوى رئيسة:

1 – الإمبريالية الغربية وإسرائيل؛

2 – النظم العربية التقليدية شبه الإقطاعية؛

3 – القوى الاجتماعية العربية التي تضررت من الإصلاح التحديثي.

منبها إلى خطورة بداية مرحلة جديدة من الاستعمار، بدأت مع اجتياح العراق عام 2003 وهي أشد من المرحلة السابقة المتمثلة بسايس بيكو. لكونها تمت بتآمر من أبناء الجلدة، واستسلام تام للمستعمر مقابل العروش. مستنكرا تشوق فئة من المثقفين إلى مرحلة الاستعمار. وكذلك النقاشات الحادة من قبل العلمانيين العرب من أجل تجديد الفكر الديني وإصلاحه، مع أن العلمانية لا علاقة لها أصلا بالدين.

ولأنهم لا يرون إصلاحا للمجتمعات العربية إلا من خلال أولوية العلمانية. دون النظر إلى مشاكل السيطرة، والامبريالية، والصراعات الطبقية، والفقر، والظلم، والاضطهاد... فيقومون وبوعي بالتغطية على الاستبداد خوفا من الإسلاميين، مما يعني اغتيالهم للتيار الديمقراطي لصالح الاستبداد والمتطرفين.

ويطرح في سياق حديثه عن العلمانية ما يسميه بـ « العلمانية الإنسانية »، وهو طرح جديد في موضوع العلمنة، معتبرا أن أنسنة العلمانية تعني فيما تعني احتراما أكبر للإنسان وعقله وقدراته على الارتقاء بذاته ومجتمعه، بغض النظر عن لونه وجنسيته ودينه.

وهو طرح يأتي في مقابل الآراء التي جعلت منها صنما، إلها جامدا، لا يقبل النقاش. وهذا موضوع يحتاج بلا شك إلى إسهاب وجهد أكبر من غليون لتبيان معالم هذا المصطلح وشرح أسسه، وكيفية إسهامه في إعادة صياغة مجتمعاتنا وفسيفسائها وأيضا تطورها.

وفيما يخص موضوع الديموقراطية والنخب، يؤكد أن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تعيش من دون ثقافة ديمقراطية تقوم على توازنات بين الدولة والمجتمع والنخب والشعب. وهو ما تفتقده مجتمعاتنا بالإضافة إلى تردد النخب، وتركيزها المعركة على الإسلام، وتجنبها الحديث عن مسؤولية الغرب، ونظمه، وحلفائه في خلق الأزمات واستمرارها.

وقد أثبت الناشر في الكتاب معظم الحوارات والردود التي تمت على الإنترنيت، مما أضاف مصداقية أكبر، وقوة وحيوية على هذا النمط من الكتابة، التي غالبا ما تكون عبارة عن مصطلحات فلسفية واجتماعية، تتلاحق ببعضها، فيصعب هضمها على الإنسان العادي، وتصبح محصورة في النخب، وبالتالي لا تؤدي دورها.

وأظهرت هذه النقاشات مدى عمق الهوة بين المثقفين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم. حيث اتخذ بعضها أحيانا عملية جلد للذات، يجيدها كثير من المثقفين. وأحيانا تخليص حسابات مع الكاتب، ووسائل الإعلام، وكما كبيرا من النقمة على المجتمع، والدين، والسياسيين. وأحيانا أخرى اتخذت شكل عرض عضلات، حيث استخدم بعض المتحاورين لغة مؤدلجة، محملة بأفكار سياسية، ومصطلحات، يحتاج فهمها أحيانا إلى قواميس. بينما غرق آخرون في خطب منمقة لا ينقصها إلا إمام يعلن قيام الصلاة، فخرجت بالتالي عن السياق والموضوع.

* كاتب وباحث مقيم في باريس.