الأحد ٢٨ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٢٣, ٢٠١٧
المصدر : جريدة الحياة
تونس
معركة الفساد في تونس تطيح رؤوساً وأحزاب الحكومة أول المهدّدين
رشيد خشانة 
في زيارة تفتيش مفاجِئة لميناء رادس في الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، وهو أكبر الموانئ التجارية في البلاد، وجه رئيس الحكومة التونسية ضربة لأحد أوكار الفساد المشهورة، باتخاذ إجراءات إدارية وقضائية في حق أكثر من خمسين ضابطاً وموظفاً من سلك الجمارك. وكان نشطاء وخبراء وسياسيون كثر حذروا منذ فترة من حجم الفساد المتزايد في الميناء الذي يُعتبر أكبر معابر التهريب في البلد. لكن الحكومة لم تلتفت إلى هذا الملف سوى اليوم. ولم يبتلع المهربون الضربة، إذ أضرموا النار في أكبر مستودعات الميناء بعد وقت قصير من مغادرة رئيس الحكومة. وهذه علامة على أن شن الحرب على عرين الفاسدين لن يكون نزهة.

قبل ذلك، أوقفت السلطات رجال أعمال معروفين بضلوعهم في الفساد وارتباطهم بشبكات إقليمية للتهريب والتجارة الموازية. إلا أن رئيس الحكومة أوضح أن الدافع لاعتقالهم هو ضلوعهم في «مؤامرة على أمن الدولة»، وأن القضاء العسكري هو الذي سيبت ملفاتهم. مع ذلك، كانت هذه العملية أكبر حملة على الفساد منذ إطاحة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في العام 2011. وأفيد بأن التخطيط لها انطلق منذ شهور من خلال مراقبة العناصر المشبوهة، لتجميع أكثر ما يمكن من الحجج والمستندات القانونية التي تُثبت إدانتها. كان الأمر يتطلب قراراً سياسياً قبل أن يكون أمنياً أو قضائياً، بحكم نوعية الأسماء التي كانت تظهر على شاشة التحقيقات واحداً بعد الآخر، وهو ما حصل بالفعل في مرحلة مبكرة من العملية، إذ تولى مجلس الأمن الوطني متابعة مراحلها، خطوة بعد خطوة، في كنف التكتم المطلق. ويضم المجلس، الذي يترأسه رئيس الدولة، كلاً من رئيس الحكومة ووزراء الدفاع والداخلية والعدل، بالإضافة لرئيس هيئة الأركان وآمر الدرك والمدير العام للأمن الوطني.

وإذا وضعنا هذا المسار في سياقه، يتأكد أن الأمر لا يتعلق بضربة جلدية ولا بعملية دعائية عابرة، وإنما بقرار سياسي له تداعياته البعيدة داخلياً وإقليمياً. بهذا المعنى، يمكن أن نفهم لماذا كانت البيانات الرسمية تتحدث عن ضربة موجهة للإرهاب، بينما رقصت غالبية وسائل الإعلام تحت لافتة الحرب على الفساد.

ما من شك في أن الحربين مترابطتان ومتكاملتان، إلا أن العمل الذي تم في إطار كشف الغطاء عن العلاقة بين التهريب والإرهاب، ساعد في الوقت نفسه على تعرية شبكات فساد كانت معروفة، لكن لم توجد الإرادة ولا الجسارة للقبض عليها، أو لأن من كانوا في مركز القرار تواطأوا معها. من هنا تُعتبر الخطوة التي قُطعت حقيقة بالتسجيل، لأنها فتحت على مسارات متعددة تشترك جميعها في عنوان مكافحة الفساد. واستطراداً، لم تكن المعركة مع الإرهاب والفساد ترمي إلى تحويل اهتمام الرأي العام عن قضايا المحتجين في الجنوب، مثلما ردد المتحفظون عن محاربة الفساد، الذين يتمنون أن يُطوى الملف فوراً، لا بل أن يُدفن قبل وصول شراره إلى ثيابهم وغرف نومهم. لذا، فلا خيار أمام الحكومة اليوم سوى المضي إلى الأمام في أرض صخرية وعرة، لأن الارتداد قاتل.

ربما أول من خذل الحكومة في هذه المعركة هو الأحزاب الحاكمة، لأن كثراً من عناصرها تحوم حولهم الشبهات، لا بل أكثر من الشبهة. ولذا نرى الحكومة في موقع ضعيف وفي وضع دفاعي أكثر مما هو هجومي، مع أن جميع الأوراق القوية في يدها. من هنا فوسيلتها لكسر العزلة هي الثبات على هذا الخط وتجاوز إطار الأحزاب الثمانية المُشكلة صورياً لـ «حكومة الوحدة الوطنية»، من أجل كسب الثقة والتعاطف من 11 مليون تونسي يحلمون باليوم الذي تُدك فيه حصون الفساد في بلدهم. وثمة من أعضاء الحكومة من دعاه القضاء للتحقيق في شبهات فساد، ومن نُشرت وثائق تدينه بالتزوير والارتشاء، وسيكون الموقف القانوني والسياسي للحكومة أقوى إذا ما تركت القضاء يُكمل تحقيقاته ويُعلن قرارته في شأن هؤلاء... ويُنفذها كاملةً.

إذا كان «كلُّ واقف في تأخر» مثلما يقول المثل، فالوضع يقتضي اليوم فتح ملف آخر من ملفات الفساد، بما يجعل حلقات المسار متصلة، ويُقيم الدليل للمشككين والمنتقدين على أن الخيار هو الخيار، وأن التراجع غير وارد، على ما أكد رئيس الحكومة قي تصريحاته الأخيرة. لنضرب مثلاً بملف حارق ثقُلت موازينه منذ الثورة ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، وهو تمويل الجمعيات. ألم يحن الوقت لرفع الغطاء عن بئر عميقة ابتلعت مبالغ طائلة لا يُعرف كيف تسربت ولا أين استقرت؟ هناك حالياً أكثر من 17000 جمعية من بينها 1800 جمعية تُراقبها الدولة من خلال الدعم الذي تتلقاه من الاتحاد الأوروبي وتوابعه، فماذا عن الجمعيات الأخرى؟ وماذا عن الأحزاب التي تلقت مبالغ كبيرة من الخارج لمناسبة الانتخابات؟ رمزياً، يكفي أن تمسك الحكومة بحلقة صغيرة مثل الجمعية التي كشفت وسائل الإعلام أخيراً تلقيها تمويلاً خليجياً أنفقت 90 في المائة منه على تسفير شباب تونسيين إلى بُؤر الصراع في المشرق، لكي تستعيد ثقة الرأي العام.

ولكي تُضفي الحكومة صدقية على معركتها مع الفاسدين، لا بد من العودة إلى الملفات التي توافق الحزبان الكبيران «نداء تونس» و «النهضة» على وضعها على الرفوف، لدى تقاسمهما الحكم في أعقاب انتخابات 2014، والتي تُورط أعضاء منهما في قضايا الاستيلاء على المال العام وصفقات مشبوهة. كما أن بعض أصهار الرئيس المعزول لم يُسألوا عن مصدر الثروات الطائلة التي جمعوها بعد المصاهرة، والتي تندرج في خانة الكسب غير المشروع.

في هذا السياق، اتخذت بعض مكونات المجتمع المدني، أسوة بـ «الائتلاف المدني لمكافحة الفساد» و «جمعية يقظة» وسواهما، مواقف بناءة لدعم الحملة على الفساد والإرهاب، مع اقتراح إجراءات عملية، بينها تأمين الدعم المالي واللوجستي والبشري للمؤسسات والهيئات المعنية بمكافحة الفساد، مثل القطب القضائي المالي و «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» (هيئة دستورية منتخبة) ودائرة المحاسبات وسائر الهيئات الرقابية، وإلزامها بنشر تقارير موثقة عن عمليات الفساد للعموم. وثمة مشاريع قوانين ما زالت تنتظر المصادقة عليها وهي تخص حماية المُبلغين عن الفساد وقانون الإثراء غير المشروع وإلزام المسؤولين بمن فيهم الوزراء بالإفصاح عن ممتلكاتهم لدى تسميتهم في مناصب رسمية، بالإضافة إلى «الاستراتيجيا الوطنيّة للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد»، مع خطتي العمل، اللتين اعتمدتهما الحكومة منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، غير أن البرلمان لم يُجزهما حتى اليوم.

خلاصة القول إن المعركة مع الفساد ينبغي أن تستمر، مع الحرص على أن تكون الملفات متينة ودامغة، لأن الإحجام عن دهم أوكاره، مثلما فعلت الحكومات المتعاقبة السابقة سيجعله يُرسخ أقدامه ويتفرعن، مُوقعاً في حباله الموظف العمومي والتاجر البسيط فتتسع الدوائر، ومن ثم يعسر الإمساك بخيوطها والسيطرة عليها.

وما دامت ملفات الفساد دسمة ومتنوعة، يمكن الحكومة التقاط حلقاته، الواحدة بعد الأخرى، في معركة طويلة النفس تشمل فئات الفاسدين من رجال أعمال وموظفين سامين وسياسيين وأصحاب مؤسسات إعلامية وصحافيين ومُهربين... فالتونسيون نخباً وفئات شعبية، لا ينتظرون سوى قليل من الصدق في إدارة هذه المعركة، ليس بغرض المحاسبة والعقاب أو التشفي والانتقام، وإنما بالخصوص من أجل وقف النزف الذي يجعل من بلد قادر على أن يكون سويسرا أفريقيا، يتخبط في وحل الأزمات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية. والأجدى في المستقبل التعويل على مُكونات المجتمع المدني، بدل انتظار الدعم من الأحزاب، لأنه بمثابة انتظار غودو، الرجل الذي لا يأتي في خاتمة المطاف في مسرحية صمويل بيكيت الشهيرة.

* كاتب تونسي



 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة