الثلثاء ٧ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ٢٢, ٢٠١٦
المصدر : جريدة الحياة
مصر
مشروع قانون بناء الكنائس في مصر يعتمد مبدأ «بص على الحيطة»
القاهرة - أمينة خيري 
تقول النكتة المصرية الشهيرة أن مجموعة من عمال البناء دأبوا - كما كانت عادتهم أثناء الأعمال الشاقة بهدف التهوين والتخفيف على أنفسهم - على ترديد عبارة «هيلا، هيلا. صلي على النبي» بنبرة غنائية بينما كانوا يبنون كنيسة. فتوجه إليهم المراقب منبهاً إياهم بأنهم يبنون كنيسة مسيحية ولا يصح أن يرددوا هذه العبارة. فما كان من أحدهم إلا أن كتب على الحائط «صلي على النبي» وأكمل العمال غناءهم: «هيلا، هيلا. بص على الحيطة».

ورغم أنه يفترض أن تكون النكتة بغرض الضحك والدعابة، إلا أنها تمثل واقعاً جلياً وحقيقة مرة. فكُرة اللهب يتقاذفها الجميع هذه الأيام، مرة بتحديد نوعية الحشو الملغوم، وأخرى بقذفها في محيط النواب المتفجر، وثالثة بتبنيها مرة أملاً في أن تكون خطوة لتفعيل تجديد الخطاب الديني المتحجر وإقصائها مرة خوفاً من تأليب هنا أو تشكيك هناك، ورابعة بتركها هدية ذهبية في ملعب المنظمات الحقوقية المتلهف، ورابعة بتجاهل الأوساط الشعبية الواقفة على طرفي نقيض، حيث جانب يتوق إلى حقوق متساوية وعدالة لا متناهية وضغينة متنحية، والآخر يخشى من توسعات مهددة واستقواءات منذرة وطلبات بالمزيد متوعدة. وتبقى قلة قليلة واقفة في الظل يكاد يكون لا صوت لها ولا وجود لرأيها ولا مجال لمنطقها البسيط وفكرها السديد حيث «الدين لله والوطن للجميع».

الجميع يتعامل مع ملف قانون بناء الكنائس المطروح على الساحة هذه الأيام، بحرص مفرط وحذر مغرق وهلع مطبق. فموجة التديين الجارفة التي أطبقت على مصر على مدى العقود الثلاثة الماضية زرعت فتنة مكتومة، وجذرت فتاوى تحريم مقموعة، ونشرت أفكاراً كارهة للمواطنة على أساس الانتماء إلى وطن واحد ومروّجة لها بناء على الانتماء الديني وحده. وحين آن أوان فتح الملف الملغوم عن «بناء الكنائس» بزغت كل المؤجلات وتفتحت المتأخرات كافة وتفجرت الألغام قاطبة في الوجوه.

الوجه الأول والمنسي تماماً في الملف الملغوم هو حق حرية الاعتقاد والذي في حال وجوده يعني أوتوماتيكياً إتاحة بناء دور العبادة من دون تقييد. ولأنه حق موؤود فعلياً مقر نظرياً، فإن التعامل مع ملف قانون بناء الكنائس يواجه صعوبات أشبه بعمليات الولادة البالغة التعقيد. وقد اعتقد بعضهم بأنه ما إن يُكتب القانون ستمضي الأمور كغيرها، ويناقش المجلس بنوده، ويتم إقراره. لكنّ آخرين كانوا على يقين بأن الولادة متعثرة لدرجة تعرض حياة الأم والجنين والطبيب للخطر.

خطورة وصم الدولة بالفشل في ملف الكنائس تعني فشلها كذلك في إدارة ملف الفتن الطائفية الذي يهدد المتطرفون بإشعاله في أي لحظة، ويعني كذلك فشلها عبر الاعتماد شبه الكلي على جلسات الصلح العرفية، وتقبيل الجباه النظرية، وعقد المواءمات الأمنية، حيث يتم تهجير هذا وإسكات ذاك وترضية هؤلاء وتنحية أولئك استعداداً لفتنة جديدة وهلم جرا.

وجرى العرف أن تتفجر أحداث الفتنة الطائفية بناء على تسلسل بات معروفاً للأحداث والإشاعات. فيبدأ بعضهم في استنفار الهمم وشحذ الطاقات لرفض بناء كنيسة، أو نشر تفاصيل علاقة عاطفية بين شاب مسلم وشابة مسيحية، أو العكس، ثم يطال الشرر الجميع وتتفجر الفتنة وتتوالى الاعتداءات وعمليات الحرق والضرب وقد تصل إلى حد القتل، ثم يأتي دور جلسة الصلح العرفي تحت رعاية الدولة، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، ويتم الاتفاق على بنود غالباً تكون مجحفة للضحية ومنتصرة للجاني.

الجناة المعروفون نظرياً بـ «المتطرفين» وواقعياً بـ «المواطنين الغيورين على دينهم» لهم أثر كبير في الأيادي المرتعشة والقلوب المرتجفة التي يتعامل بها جميع الأطراف مع ملف بناء الكنائس. تُكتب بنود القانون بعناية فائقة منعاً للحرج واتقاءً للاحتقان ومراعاة للأحوال، وتخرج المسودة «التوافقية» بين الدولة والكنائس في تموز (يوليو) الماضي أملاً في عرضها على البرلمان بغرض الموافقة والتمرير. لكن الكنيسة الأرثوذكسية تؤكد أن تعديلات غير مقبولة قد جرت على النص المتفق عليه، ما أعاد الموضوع برمته إلى النقطة صفر.

النقطة صفر تعني أن التعديلات موضوع الخلاف ستثير مشاكل تُجهض محاولات تمرير القانون. وبحسب تصريح أدلى به محامي الكنيسة المصرية إيهاب رمزي فإن التعديلات «تحدد شكل الكنيسة باعتباره مبنى محاطاً بأسوار من دون أن يحدد وجود قبة أو صليب»، كما أنها تربط مساحة إنشاء كنيسة جديدة بعدد السكان، ومدى حاجتهم لها من دون تفاصيل أو توضيح، «ما قد يسمح للجهة الإدارية بالتعسف، إذ وضعت الأمر من دون تحديد أسباب الموافقة أو الممانعة في يد المحافظ وبالتنسيق مع الجهات المعنية».

وحيث إن الجهات المعنية غالباً تكون هي الجهات الأمنية، فإن ذلك يعني العودة مجدداً إلى المتلازمة التاريخية المتمثلة في الوجه الأمني لمشاكل المسيحيين والكنائس، أي ابتعاد برعاية الدولة من قيم المواطنة الحقيقية التي تكفل للجميع حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وما يتربط بهما من حقوق منصوص عليها في الدستور.

هذه الحقوق يرفع رايتها ويطالب بتفعيلها قليلون. وبين مصريين مسيحيين يشعرون بوطأة المشكلة، ومصريين مسلمين يتضامنون معهم بدافع المواطنة الكاملة، منظمات حقوقية تبذل جهوداً تعاني التجهيل. «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» دشنت حملة عنوانها «مغلق لدواع أمنية: من أجل قانون منصف لبناء الكنائس»، هدفها التعريف بأبعاد مشكلة بناء الكنائس وترميمها في مصر، وذلك بهدف تنمية الوعي لدى المسؤولين وأعضاء البرلمان والإعلام، أملاً في إصدار قانون معبر عن الحق في حرية الاعتقاد، بما يضمن إتاحة بناء الكنائس لا تقييدها، ووقف الانتهاكات المتواترة.

وتؤكد المبادرة أن غالبية هذه الانتهاكات والسياسات التمييزية تُمارَسُ من قبل الجهات الرسمية، إضافة إلى جماعات وقوى عدة وأفراد في داخل المجتمع، وهو ما أسهم في انتشار ثقافة مجتمعية رافضة لوجود الكنائس أو حتى تجديدها. أصوات مسيحية تجاهر هذه الأيام بطلب قانون عبادة موحد، وليس قانون عبادة مسيحياً أو آخر يقيد حرية البناء أو يلزم بقيود بعينها.

يُشار إلى أن الأنظمة المصرية المتعاقبة تعتمد على ما يعرف بـ «الخط الهمايوني» الصادر في منتصف القرن التاسع عشر وتحديداً في العام 1856، والمعروف بقانون الباب العالي (الدولة العثمانية)، إضافة إلى شروط وكيل وزارة الداخلية السابق محمد العزبي باشا، والتي تعود إلى بدايات القرن الماضي لتنظيم بناء الكنائس. وجعلت هذه القواعد من عملية بناء كنيسة أو ترميمها مسألة بالغة التعقيد.

وبعيداً من مصير القانون ومآل التوافق وتوقيت الموافقة عليه، تظل المشكلة الرئيسة مشكلة مجتمعية حيث الحاجة إلى إعادة هيكلة الخطاب الديني لوضع أسس المواطنة بناء على الجنسية لا على الديانة، وبناء دور العبادة بوضوح وثقة من دون الحاجة إلى رفع شعار «بص على الحيطة».


 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة