السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ٨, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
إدلب... الحلقة الأخيرة من حلقات الحركة السوريّة وتاريخها
بانجامان بـــارت، سيسيل هينيـــون، ألان كافال، لور ستيفان، مجيد زروكي

يتعثر نظام بشار الأسد في طريق استعادته السيطرة، بواسطة حليفيه الروسي والإيراني، على الأراضي السورية، بثنية جغرافية تقع في الشمال الغربي هي قطاع إدلب. ويقيم في القطاع فوق 3 ملايين شخص، نصفهم هربوا من مسارح حرب أخرى، ويحتشدون بين الحدود التركية، إلى الغرب، وبين مناطق يحتلها أنصار أنقرة المسلحون، إلى الشمال، وآلة النظام السوري وأعوانه، إلى الجهات الأخرى. وينتمي عشرات آلاف المسلحين إلى كوكبة من الجماعات المسلحة المتفرقة المشارب والأهواء الأيديولوجية: من إسلاميين بعضهم تجوز مخالطتهم ومعاملتهم تساندهم تركيا، وآخرون لا تجوز فيهم لا هذه ولا تلك، إلى أنصار «الجهاد» وهم الكثرة الغالبة. وعلى حدود القطاع، يحشد النظام قواته. وتشن الطائرات الحربية الروسية غاراتها منذ بعض الوقت. وينتظر الهجوم الحاسم رسو ميزان القوى والعلاقات الدولية بين أنقرة وموسكو وطهران على قرار مناسب. ففي خريف 2018، ينبغي أن تبلغ الحرب بين النظام والانتفاضة خاتمتها، وعلى الأرض التي شهدت بدايتها، قبل 7 أعوام.

ففي أوائل حزيران (يونيو) 2011، كانت ريح الثورة تنفخ منذ أسابيع على المنطقة الريفية والمحافظة القائمة في شمال غربي سورية. وفي مدينة سراقب الصغيرة، إلى الشرق، تتابعت التظاهرات السلمية منذ 25 آذار (مارس). وهتف مئات من السوريين في الشوارع بشعارات مناهضة للنظام. وبعد شهر على هذه التظاهرات، انتقلت حركة المعارضة إلى إدلب، مركز المحافظة المعروفة باسم المدينة. ورد النظام بالقمع. فأوقف المعارضين، ونشر مدفعيته، وحلقت حوامات الهيليكوبتر في سماء البلد وفتحت نيرانها. ومذاك، انقلبت إدلب شاغلاً ومحل اهتمام بعد أن كانت، مدينة محافظة، مغمورة وفقيرة. فهي ممر تجاري إلى تركيا القريبة، وأرضها قاحلة تنبت الزيتون الذي يعصر ثمره زيتاً، ولا تعرف بغير بعض المواقع الأثرية فيها. وفي أسابيع قليلة قدمتها الحوادث إلى موقع الصدارة.

وفي 4 حزيران (2011)، على مسافة 50 كلم الى الجنوب الغربي من إدلب، اجتمع نحو ألف شخص في جسر الشغور ليشيّعوا شاباً قتلته قوات الأمن في اليوم السابق. واحتل قناصو النظام السطوح المطلة على ساحة البلدة وطرقاتها. وسار في وسط الجمع مسلحون فتحوا النار على القناصة. فسقط قتلى من الطرفين. وأحصت لجنة العفو الدولية («أمنستي إنترناشونال») 25 قتيلاً من المدنيين. وفي 6 حزيران، أعلنت دمشق أن 120 شرطياً دعوا إلى المساندة قتلوا قبل أن يتاح لهم التدخل، وأن كتيبة مدرعة في طريقها إلى جسر الشغور نُصب لها مكمن ووقعت فيه. وكانت خسارة النظام، يومها، الأثقل في خسائره، والعلامة البارزة على اجتياز المحافظة عتبة «السلمية» التي امتنعت التظاهرات في المناطق السورية عن اجتيازها في حينها. وآذن ذلك بابتداء الحرب. ويروي المعارضون صيغة أخرى لواقعة جسر الشغور: كان قتلى الشرطة ضحايا مجزرة ارتكبتها قوات النظام في متمردين رفضوا تنفيذ أمر رؤسائهم بإطلاق النار (وخصت الصحافية اللبنانية – الأسترالية رانيا أبو زيد الحادثة الأم هذه برواية تفصيلية في كتابها: «لا جواز لعودة الى الوراء»، واونوورلد بابليكيشن، 400 صفحة).

ومن الشهود الذين تحدثت رانيا أبو زيد إليهم، فؤاد، شاب اعتنق الثورة السلمية، وحضر التشييع. ويرى فؤاد في الاشتباك المسلح ثأر «الأبناء» من «الجرائم التي ارتكبت في حق آبائهم وأجدادهم». وهو يعني بـ»الجرائم» قمع قوات أمن حافظ الأسد، والد بشار، أهل جسر الشغور إبان انتفاضة الإخوان المسلمين (1979 - 1982)، الناشطين في المنطقة. وثقل القمع طوال عقود وجذوة تذكر الماضي الأليم هما السبب في استقبال إدلب المعارضة المسلحة، جزئياً. فقرب المحافظة من تركيا اضطلع بدور حاسم في الأمر. ووسع الجماعات المسلحة تهريب السلاح. وانسحاب قوى الأمن إلى المراكز المدينية الكبيرة، يسَّر التهريب. ولم يجمع معارضو نظام الأسد على هذا المنحى. ففؤاد الذي «يكره النظام» لا يرى في المسلحين وأعمالهم ما يرضيه، على ما تلاحظ رانيا أبو زيد.

وعاملٌ آخر كان له دور في اندلاع الأعمال المسلحة، هو محاذاة إدلب، المحافظة ذات الغالبية السنية، محافظة اللاذقية، معقل سلالة آل الأسد، من الأقلية العلوية. وغداة مهاجمة جسر الشغور، عمد النظام إلى تجميع قواته وتواتر عملياته، من قصف واعتداءات الشبيحة وإعدامات من غير محاكمة واشتباكات محلية وكمائن. وفي الأثناء، امتدت التظاهرات وتكاثرت، واختلطت بالإضرابات. فتراجعت قوى الأمن، وخسرت الموقع تلو الموقع. وتخلى النظام، صيف 2012، عن معبر باب الهوى الحدودي، إلى الشمال من مدينة إدلب. وبعد أشهر قليلة، سيطر الجيش السوري الحر على سراقب. وانضم الى «الجيش الحر»، ونواته الأولى من الضباط والجنود الذين تركوا قوات النظام، الثوار الذين أخرجوا من ضواحي حمص قسراً.

وأيقظ اتساع الانتفاضة على النظام اهتمام بعض الدول الإقليمية التي تجمعها بالمنتفضين روابط ومصالح قديمة وقوية، وعلى رأسها دول خليجية متفرقة. وقدَّرت هذه الدول أن الانتفاضة وسيلة إلى كسر «المحور الشيعي» الذي يصل إيران بـ»حزب الله» اللبناني من طريق سورية. ولم تلبث هذه المقاصد والاستراتيجيات أن غلبت على الأماني المحلية، ورجحت كفة التمويل والتسليح على كفة العوامل والمثل الأولى. وفي أواخر 2012، انعقد مؤتمر أنطاليا، في تركيا، وحسم مسألة تهميش ألوية «الجيش الحر» التاريخية، وقدَّم عليها الجماعات الإسلامية. وعينت ألوية «الجيش الحر» مجلساً عسكرياً أعلى، ترأسه العميد سلام إدريس، لكنه كان صفر اليدين من الأدوات والوسائل التي تمكنه من بلوغ غاياته. وبقيت مناشدات الألوية المعارضة، وتنادت هذه إلى إعلان ولاءاتها «الإسلامية». وظهرت جماعات مسلحة تبارت في التطرف، وافاها أجانب يتوقون إلى «الجهاد»، ويسهل عليهم تملق حرس الحدود التركي التسلل إلى الداخل السوري.

وعلى رغم عسكرة الحركة المتعاظمة، وهاجس القصف الجوي المقيم، حاول الناشطون المدنيون السهر على دوام روح الانتفاضة السلمي والاجتماعي. ففي كفرنبل، استمر الأهالي على التظاهر أيام الجمع، ورفعوا لافتات كتبوا عليها شعارات انتقادية ساخرة لا تنضب ابتكاراتها. وغطت جدران سراقب كتابات غرفت من معين أشعار الشاعر الفلسطيني المعروف، محمود درويش. وفي أنحاء متفرقة من محافظة إدلب، نظمت نشاطات إسعاف، وبادر معلمون إلى فتح أبواب المدارس مجدداً...

وأفضى تكاثر الجماعات المسلحة المحلية إلى شيوع الاضطراب والفوضى. وانتشر وباء أعمال الخطف وابتزاز الفدية. وضاق الأهالي ذرعاً بالجماعات المسلحة، وبالمتطرفة منها على وجه الخصوص. وغرقت منطقة إدلب كلها في أزمة متفاقمة. فقرب الحدود التركية، تكاثرت مخيمات اللاجئين. واعتاش النازحون السوريون من المساعدات الإنسانية. وانهارت شبكة الأعمال الزراعية التي كانت تعيل 70 في المئة من السكان. وحرق القصف والقتال الحقول، ودمر أبنية الري التحتية. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2013، نهب تحالف جماعات مسلحة إسلامية مخازن أسلحة الجيش السوري الحر. وأسقط في يد الديبلوماسيين الغربيين: فبين رعاة التحالف الجديد حليفان هما قطر وتركيا. وتصدرت المشهد السياسي والقتالي في محافظة حلب، مطلع 2014، جبهة النصرة، فرع «القاعدة» السوري. وتعاظم قوة هذا التيار «الجهادي» كان ثمرة مباشرة لتردي قوة الألوية المنتسبة إلى «الجيش الحر». ورفد خلايا «النصرة» الأولى جهاديون مجربون قدموا من العراق والقوقاز.

وعلى خلاف منافسيهم من تنظيم داعش - أنصار المجابهة الرأسية وإقامة الخلافة في الحال - مال مقاتلو جبهة النصرة، المتحدرون من الرحم العراقي، إلى تكتيك الذوبان في المشهد السوري المنتفض، ومداراة الأهالي. ودعا زعيم التنظيم، أبو محمد الجولاني، في 2013 إلى تلافي الأخطاء التي وقع فيها «القاعدة» في بلاد أخرى مثل عنف المجاهدين العراقيين الممنهج الذي استجلب عليهم رفض الأهالي وتأنيب أسامة بن لادن. ويرقى تسلل الجولاني الى سورية، إلى أواخر صيف 2011. وأوكل إليه تنظيم القوى المقاتلة الأولى. ومعرفته بالميدان السوري قوية. فسورية كانت ممر آلاف المتطوعين للقتال في العراق غداة 2003، والغزو الأميركي. وعفا بشار الأسد عن مئات من المعتقلين الإسلاميين، وعدد منهم من إدلب ومحافظتها، سرعان ما انضموا إلى الجبهة التي كان الإعلان عن ولادتها في كانون الثاني (يناير) 2012.

وبرزت «النصرة» قوة عسكرية منظمة وفاعلة. ومكنتها درايتها بالعمليات الانتحارية من اختراق خطوط الأعداء الأمامية على نحو قدّرته الجماعات الأخرى تقديراً عالياً. فكانت سباقة إلى الاستيلاء على قاعدة تفتناز الجوية، في كانون الثاني 2013، غير بعيد من إدلب. وكان هذا إنجازها العسكري الأول. وجمعت الموارد المالية من «القاعدة» العراقية، أول أمرها، ثم استغنت عنها، بعد القطيعة، بـ»الغنيمة» المحلية، وبعمليات خطف مجزية، مثالها خطف راهبات معلولا، والإفراج عنهن لقاء 15 مليون دولار سددتها قطر، إلى تسديدها عمليات أخرى. فبسطت «الجبهة» نفوذها على ضواحي محافظة إدلب، وانفردت بالنفوذ حيث وسعها ذلك. فأنشأت شرطة «شرعية»، وأعدمت «بغايا» و»مدمنين»، وأسكتت المعارضين المدنيين. وأرست أركان إمارة جهادية، آن كانت الجماعات الأخرى تقتتل ويمزق بعضها بعضاً.

وفي 2014، قضت «النصرة» على منظمتين تولت الولايات المتحدة تدريبهما وتسليحهما واستولت على سلاحهما. ورداً على قصف طائرات من غير طيار أميركية بعض قادتها في 2015، خطفت «النصرة» عشرات من مقاتلي «الفرقة 30» من «الجيش الحر»، التي ترعاها واشنطن، واستولت على سلاحهم الجديد. فخلصت واشنطن من الحادثة إلى الامتناع من المجازفة بتسليح المعارضين السوريين بسلاح مضاد للطائرات، على رغم ملاحظة «الجيش الحر» أن الامتناع الأميركي قوى «النصرة». وفي 28 آذار (مارس) 2015، يوم السبت، سيطر تحالف تقوده «النصرة» على إدلب في أعقاب معارك دامت 5 أيام، وهربت قوات النظام من المدينة. واتخذ أبو محمد الجولاني منها «عاصمة» ولايته. ولم يشأ الجولاني مهاجمة الساحل العلوي، خشية تكتل أهله، على قول الشيخ عبدالله المحيسني. فتوجه إلى حماة، وقدّر أن انهيار النظام هناك (كان ليفتح) الطريق إلى دمشق.

وبينما كانت مدن منتفضة أخرى تتضوّر جوعاً، كانت مخابز إدلب تخبز الطحين الوفير، وتتولى دائرة القمامة البلدية رفعها، وتباع بندورة (طماطم) إدلب في أسواق دمشق. فالمحافظة واسعة المساحة على نحو تتعذر معه محاصرتها. لكن قبضة الإسلاميين عليها، وتشدّدها، أدت إلى هرب الموظفين، وأرادت السيطرة على المجالس المحلية المدنية. وابتزت الجمعيات غير الحكومية. فانفض الناشطون الذين وفدوا إلى إدلب وغادروها إلى تركيا وغيرها. وفي ليلة 10 حزيران 2015، تسلل أحد قادة «النصرة» إلى ضيعة قلب لوزة الدرزية، وأراد مصادرة دار أحد السكان. فأوقع الاشتباك 23 قتيلاً من أهل القرية، معظمهم من آل الشبلي. وحمل دروز جبل السماق على تغيير معتقدهم عنوة، خلافاً لالتزام الجولاني على «الجزيرة». وحيث تغلب «النصرة» تفرق بين الجنسين، وتقيم المحاكم الشرعية، وتقصي «الكفار» و»المرتدين» وتنتزع أولادهم من أهلهم وتقرهم على تعليمها ومقررها الدراسي.

وقلبت الحملة الروسية الجوية الموازين. فاستعاد النظام ضاحيتي دمشق المولوية وداريا. وخسرت المعارضة حلب الشرقية في كانون الأول (ديسمبر) 2016. فكانت ضربة قاصمة. ووجهت الجماعات المسلحة في مناطق «التهدئة» إلى إدلب. وفي أستانة، عاصمة كازخستان، صيغت في كانون الثاني (يناير) 2017، خطة جديدة رسمتها موسكو، وقضت بـ»مصالحات» أخرجت الجماعات المتفرقة من شمال حمص والغوطة الشرقية (دمشق) ومحافظة درعا. وقضت الخطة بمحاربة الجماعات «الإرهابية» ومنها جماعة الجولاني. وعلى هذا، وسع بشار الأسد، تسانده موسكو، القضاء على المعارضة، جماعة بعد جماعة، وبلداً بعد بلد. وغرقت صفوف المعارضة في نزاعات مسلحة وثارات وتصفيات لا نهاية لها. وتستقبل إدلب فلول هذه الجماعات وضغائنها. وضمت «النصرة» بعض هذه الجماعات أو أجزاء منها تحت اسم هيئة تحرير الشام. وشنت هجمات مميتة على حمص (2/2017) وعلى حي شيعي في دمشق (3/2017). ورد النظام بغاز السارين في 4/4/2017، على خان شيخون. وقصف كل المراكز الطبية والمستوصفات التي وسعه بلوغها. وأوكل الاتفاق الروسي – التركي الأخير تقويض هيئة تحرير الشام إلى تركيا.

* فريق مراسلين، عن «لو موند» الفرنسية، 1617/9/2018، إعداد منال نحاس
3 أكتوبر 2018 /  


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة