الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ٦, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
كيف تكون محاكمة الناصرية بوجهيها ؟ موريس عايق
يفتح أي نقاش حول الناصرية وإرثها، الباب لمنازعات وسجالات سياسية عدة، فالناصرية لم تُحلْ بعد إلى التاريخ بوصفها ظاهرة انقضت، فهي لا تزال حاضرة عبر إرثها الصريح، ممثلاً في الدولة المصرية المعاصرة، أو ضمناً عبر الدول العربية الأخرى التي اعتمدت استراتيجيات ناصرية بطريقة أو بأخرى. بل إن استعادة الدعاية الناصرية في صراعات الدولة المصرية المعاصرة تسمح بمساءلة الدعاية الشائعة عن انقطاع الناصرية عبر انقلاب السادات عليها.

للناصرية وجهان حاضران وبقوة، وهما لا يقتصران عليها، بل نشهدهما وبدرجات متفاوتة في كل تجارب السلطويات الشعبوية التي سادت في الوطن العربي في منتصف القرن الماضي. الوجه الأول هو التقدمي المرتبط بتوسيع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز المساواة وتحسين شروط حياة الطبقات الأكثر بؤساً، بخاصة الفلاحين وتشكيل طبقة وسطى واسعة عبر توسيع التعليم والتوظيف. الوجه الآخر هو الاستبداد والقمع واحتكار السلطة لشخص الزعيم أولاً ولاحقاً للجيش والأمن وتأسيس دولة الجيش، أو دولة الأمن القومي، وما ترتب على هذا (أو رافقه) من هزائم مستمرة تعرضت لها الناصرية في حروبها. الناصرية قدمت وجهين، تقدمباً على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وآخر استبدادياً على مستوى الحريات والسياسة.

اعتمدت الناصرية، كنظام شعبوي، على تحالف واسع يسمح بمواجهة نخبة النظام القديم. وقد حكمت متطلبات هذه المواجهة السياسات الاقتصادية الأولى للناصرية، كالتأميم الذي هدف إلى تحطيم القاعدتين الاقتصادية والاجتماعية لهذه النخبة. كذلك، فإن الحاجة إلى إدامة هذا التحالف وحفظه حكمت السياسات الاقتصادية للناصرية لاحقاً في ما تعلق بتوزيع الثروة، وهو الجانب التقدمي الذي أدى إلى توزيع أكثر عدالة للثروة وتكبير نصيب الطبقات الدنيا والشعبية منها. يُضاف إلى هذا، السعي إلى فتح باب الترقي أمام الطبقات الاجتماعية الدنيا من خلال التعليم والتوظيف، ما سمح بتوسيع الطبقة الوسطى. كانت هذه الاستراتيجيات الاقتصادية محكومة وخاضعة للهدف السياسي للنظام، أي تعزيز سلطته من خلال حفظ التحالف الذي استندت إليه الناصرية وإدامته، ما عنى تقديم الشرط السياسي في الإدارة الاقتصادية على العقلانية الاقتصادية ذاتها، بحيث أصبح الاقتصاد محكوماً بالسياسي.

لم يكن هذا التحالف الواسع تحالفاً ديموقراطياً، فلم تكن التعبئة تتم من تحت، بل - وكعادة الأنظمة الشعبوية السلطوية - كانت التعبئة تتم من فوق عبر الدولة ذاتها التي صادرت السياسة واحتكرتها تماماً. لكن الدولة بدورها لم تتمأسس، لأن أي مأسسة لجهاز الدولة ستضع عاجلاً أو آجلاً حدوداً على سلطة الزعيم الذي رغب في أن يكون تواصله مع الجماهير في شكل مباشر وعبر قنوات موازية وبديلة يمكن أن يلجأ إليها في مواجهة أي تحد قد يتعرض له، بخاصة من داخل جهاز الدولة. لقد كان الهدف من خلق أجهزة موازية داخل الدولة ومراكز قوى متعددة في مواجهة بعضها بعضاً مع تداخل في سلطاتها، وهو ما يبدو لا عقلانياً لمراقب خارجي، منع ظهور أي قوة تتحدى الزعيم كمركز بديل أو نشوء مؤسسة ذاتية ومستقلة يمكن أن تسيّر نفسها بنفسها.

لا يشكل هذان الوجهان جانبين متناقضين من التجربة الناصرية، بل هما وجهان متكاملان ومؤسِسان لها كتجربة سلطوية شعبوية. غير أن التحدي الأساسي الذي واجه السلطويات الشعبوية خلال تاريخها هو إدامة الموارد الاقتصادية التي تسمح بحفظ التحالف الاجتماعي الواسع الذي استندت إليه. ففي البداية ومع التأميم والاستثمار في مشروعات البنية التحتية والتعليم ومع أسعار مرتفعة للمواد الأولية في السوق العالمية، كان من الممكن الحفاظ على سياسة توزيعية واسعة، لكن مع فشل مشروعات التصنيع والإقلاع الاقتصادي -فشل تعود أسبابه إلى طبيعة النظام ذاته: هيمنة السياسي وشروط الولاء المترافق مع عدم الكفاءة والرشوة الطبقية ونشوء أوليغارشية جديدة مسيطرة على جهاز الدولة - يصبح من العسير إدامة الثروة ومصادر الدخل التي يمكن توزيعها بما يحفظ هذا التحالف. فكانت النتيجة أن الكعكة التي سيتم توزيعها نقص حجمها و4ي شكل متزايد بالنسبة إلى من سيتم توزيعها عليهم، وعادة ما تم السعي إلى حل هذه المعضلة عبر تبني سياسات انفتاح اقتصادي هدفت إلى تخفيف مسؤولية الدولة من جهة وتحقيق إقلاع اقتصادي عبر القطاع الخاص من جهة أخرى. وهي السياسات التي نتج منها تفاوت هائل في الثروة ونشوء طبقة أغنياء جدد فاحشة الثراء من أناس مرتبطين بالسلطة ورجالها، إن لم يكونوا من أبنائهم وأقربائهم مباشرة.

ما يميز الناصرية في هذا السياق، أن المؤسس رحل قبل أن يشهد بنفسه هذا الاستعصاء، غير أن التجربة المصرية شهدته مع تولي السادات، كما شهدته التجارب السورية والعراقية والجزائرية والليبية وغيرها. هذا الرحيل المبكر، الذي ترافق مع تراجع السادات عن الشعارات الناصرية، سمح بتنصل الناصرية كأيديولوجيا مما ترتب على هذا الاستعصاء وتقديمه كأنه ليس نتاجاً لسياسات الناصرية نفسها بل لخيانتها. طبعاً، ما يتم التغاضي عنه هو النظام الذي سمح لخونته بالوصول إلى قمة هرمه السياسي والعسكري، بما مكنهم من وأده ومن دون أن يتم كشفهم. لكن الخيانة لن تكون سبباً مفسِراً، إن تذكرنا أن هذا الوضع نفسه سنشهده لاحقاً في تجارب السلطويات الشعبوية الأخرى في العالم الثالث، كما نشهده الآن أيضاً في فنزويلا مع التجربة البوليفارية. إن الفصل بين وجهي الناصرية ليس سوى قراءة أيديولوجية لا تستند إلى واقع التجارب الشبيهة بها وما نتج منها، بل تستفيد من الرحيل المبكر لعبدالناصر من أجل تبرير خيارات سياسية من دون الالتفات إلى كل بنية النظام السياسي الذي تولى تنفيذ هذه السياسات.

إن السؤال الذي تجب الإجابة عنه هو: هل كان من الممكن السياسات الاجتماعية التقدمية للناصرية أن تخلق لاحقاً بيئة داعمة للديموقراطية وإطلاق تنمية اقتصادية مستدامة؟ أعتقد أن الإجابة المرجحة هي بالنفي. فما الذي سيدفع الأوليغارشية البيروقراطية (الاشتراكية) إلى التخلي عن سلطاتها الهائلة التي كسبتها عبر سيطرتها على جهاز الدولة؟ وكيف يمكن إقلاعاً اقتصادياً مستدام ومترافقاً بنجاح التصنيع أن يتحقق في ظل هيمنة السياسي التامة على الاقتصادي، وتقدم الولاء على الكفاءة؟ إن النجاح في تحويل الجانب التقدمي للناصرية إلى مشروع وطني وديموقراطي لم يكن ممكناً من داخل النظام الناصري نفسه، بل من خارجه كما عبرت عنه الهبات الشعبية والطالبية التي بدأت بعد هزيمة 67 واستمرت خلال العقد الأول من عهد السادات، وهي هبات واجهها النظام الناصري بالقمع.

في المقابل، فإن العديد من مناهضي الناصرية يرغبون في رمي كل شيء ووصمه بالفشل، وضمناً السياسات الاجتماعية والاقتصادية التقدمية لعبدالناصر، متغاضين عن السؤال الآخر: هل من الممكن القيام بتنمية اقتصادية مستدامة وبناء نظام ديموقراطي من دون حد أدنى من التوزيع العادل للثروة ووجود سوق وطني واسع يحفظ التنمية الاقتصادية وعملية التصنيع؟ الإجابة المرجحة هي أيضاً بالنفي.

إن وجهي الناصرية لا يمكن فصلهما من داخل النظام الناصري، ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن فصلهما من خارج الناصرية ذاتها. والتحدي اليوم، عربياً، يدور حول بناء سياسة شعبية وديموقراطية من دون الانزلاق بسهولة إلى مغريات السلطويات الشعبوية، مثل الناصرية، مرة أخرى، متخلين عن الديموقراطية والحرية باسم العدالة والسيادة.

* كاتب سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة