الثلثاء ١٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ٢٠, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
هل تصبح مصر دولة غير زراعية؟ - محمد شومان
النيل بالنسبة إلى مصر قضية حياة أو موت، وقد طرح الموضوع في السنوات الأخيرة بالحاح ومن زاوية تهديد سد النهضة لحق مصر في مياه النيل، الثابت تاريخياً وقانونياً وفق الاتفاقيات الدولية، والحقيقية أن هناك تفاصيل قانونية وفنية وهندسية كثيرة ومعقدة ارتبطت ببناء هذا السد وأثاره المتوقعة وعملية التخزين وحصة مصر من مياه النيل، لكن الجديد أن هناك منظور مغاير لتناول قضية المياه في مصر ينطلق من مسلمة أن حصة مصر من مياه النيل، والتي تقدر بـ55.5 بليون متر مكعب لا تكفي احتياجات الشعب المصري، الذي بلغ تعداده حوالى 95 مليون نسمة، ويقدر العجز المائي السنوي بحوالى 20 بليون متر مكعب!

المشكلة أن هذا العجز مرشح للزيادة في ظل استمرار الزيادة السكانية وزيادة الطلب على المياه نتيجة التوسع في الزراعة والصناعة، ووفق تصريحات أخيرة لوزير الري والموارد المائية فإن إجمالي الاحتياجات المائية لسد حاجة قطاعات الدولة المختلفة تصل إلى أكثر من 114 بليون متر مكعب، لتلبية حاجة الزراعة والصناعة وأغراض الشرب والاستخدامات، وأضاف، أن مواردنا المتجددة سواء من نهر النيل أو مياه الأمطار والمياه الجوفية 60 بليوناً، الأمر الذي يشكل عجزاً مائياً يبلغ أكثر من 54 بليون، يجري تغطيته من خلال إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي بما يناهز 20 بليون، والتي تمثل نحو 33% من إجمالي المياه المتجددة، في حين تصل كميات المياه المستخدمة في إنتاج ما يجري استيراده لسد احتياجات الدولة من السلع الغذائية ما يعادل 34 بليون متر مكعب.

مصر إذن ومنذ سنوات دخلت مرحلة الفقر المائي وهو العنوان الذي حذر منه تقرير شهير صدر عام 2009 عن مركز المعلومات ودعم القرار التابع لمجلس الوزراء، وجاء فيه أن نهر النيل كان يوفر 86.7 في المئة من مصادر المياه في مصر، بينما توفر المياه الجوفية بالوادي والدلتا نحو 10.2 في المئة والمياه الجوفية بالصحاري وسيناء 1.6 في المئة، والأمطار والسيول 1.6 في المئة، وقدر التقرير احتياجات مصر المائية عام 2017 بحوالى 86.2 بليون متر مكعب، ولن يتوفر منها سوى 71.4 بليون، وانتهى التقرير إلى أن مصر ستواجه عجزاً يصل إلى 14.8 بليون، لكن من الواضح أن العجز الحالي تجاوز توقعات تقرير 2009 وبلغ حوالى 20 بليون متر مكعب أو 54 بليون متر مكعب، وفق تقديرات وزير الري والموارد المائية، التي اعتمد فيها معادلة أن ما تستورده مصر من غذاء يتطلب في إنتاجه قرابة 34 بليون متر مكعب، حيث أن مصر هي أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، وما القمح أو أنواع الحبوب والغذاء الأخرى إلا مياه مستوردة، لذلك هناك من الباحثين من يربط دائماً بين الطاقة والمياه والغذاء في دراسة العجز أو الزيادة في الموارد الثلاثة. مهما كان حجم العجز المائي أو المشكلات المترتبة عليه فإن مصر بدأت قبل سنوات في اتخاذ سياسات جديدة وغير تقليدية تتسم بالمرونة للتغلب على فقرها المائي، والمفارقة أن هذه السياسات لا تراهن علي زيادة حصة مصر من مياه النيل، وإنما تهدف إلى الحفاظ عليها، وهي 55.5 بليون متر مكعب من خلال الحوار والتعاون المشترك مع دول حوض النيل وفي مقدمتها إثيوبيا، كما ترحب في الوقت ذاته بالمشروعات المشتركة لتطوير مجرى النيل والحفاظ عليه، أما بالنسبة إلى الخطط والحلول غير التقليدية والتي يجرى العمل بها في مصر لسد العجز المائي فتدور في عدة محاور أهمها:

1- ترشيد الاستهلاك في الزراعة من خلال تغيير التركيب المحصولي، واستباط محاصيل أقل استخداماً للمياه، والتوسع في الري بالتنقيط والتقليل من مساحات زراعة الأرز، وتستهلك الزراعة النصيب الأكبر من موارد مصر المائية (حوالى 62.5 بليون متر مكعب) نتيجة استخدام طرق قديمة في الري كالري بالغمر، كما يضيع 30 في المئة من مياه الري في الترع، من هنا يؤكد الخبراء أن القطاع الزراعي هو المرشح الأول للترشيد. وهناك من ينبه إلى أن مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي تراجعت وبلغت 12 في المئة عام 2017، بينما يستهلك القطاع الصناعي حوالى 4 بلايين متر مكعب مياه ويساهم بحوالى 17 في المئة، ما يعني أن عائد المياه في القطاع الصناعي نحو عشرة إلى ٣٠ ضعفاً من القطاع الزراعي. فهل يعني ذلك أن المصلحة الاستراتيجية لمصر هي التحول إلى دولة غير زراعية؟

2- ترشيد الاستهلاك المنزلي والإداري بنسبة 50 في المئة على الأقل، وذلك من خلال استخدام منتجات تكنولوجية جديدة وتوعية المواطنين وتنقية مياه الصرف المنزلي والمياه الرمادية، وهي كل أنواع المياه الناتجة عن الاستخدامات المنزلية والإدارية، التي لم تختلط بالمخلفات الآدمية الصلبة، والتي يطلق عليها المياه السوداء (مياه المراحيض)، وتمثل المياه الرمادية حوالى 75 في المئة من المياه المستهلكة في المنازل، وقد أجريت عديد من التجارب الناجحة في الغردقة والمدن الجديدة لإعادة تدوير هذه النوعية من المياه.


3- محاربة ثقافة الوفرة المائية والتي ترتبط بثقافة المصريين وأنماط سلوكهم المتوراث عبر التاريخ، فلم يعايش سكان الوادي والدلتا مشكلات نقص مياه الشرب أو الري إلا نادراً، وبالتالي اعتادوا على التصرف بقدر من البذح، في هذا السياق لجأت الحكومة أخيراً لرفع اسعار مياه الشرب، وطرحت أفكاراً خاصة بفرض رسوم محدودة على مياه الري، وهو أمر من الصعب على الفلاح المصري القبول به، كما أنه سيزيد من مشكلات القطاع الزراعي، لكن من المؤكد أن هناك حاجة إلى حملات توعية في الإعلام وفي مناهج التعليم لحث المصريين على التعامل مع المياه كسلعة نادرة.

4- تدوير مياه الصرف الزراعي والصناعي والصرف الحي بهدف استخدامها في الزراعة وتربية الأسماك والمواشي، وهو ما يجري العمل به على نطاق واسع في التعامل مع مياه الصرف الزراعي، إضافة إلى أن استخدام أنواع جديدة من الأساليب والمواد التكنولوجية سيضاعف من الفرص المتاحه أمام مصر، وهناك بحوث وتجارب كثيرة في مصر تنتظر التطبيق، وتعتمد على تكنولوجيا النانو تكنولوجي والطاقة الشمسية، وهو ما ناقشه أخيراً مؤتمر مهم نظمه اتحاد المستثمرين برئاسة رجل الصناعة محمد فريد خميس، وبحث المؤتمر، وربما للمرة الأولى في مصر، فرص استثمار القطاع الخاص المصري في مجالات تدوير المياه وترشيد الاستهلاك وتحلية مياه البحر.

5- تحلية مياه البحر والآبار الجوفية وهما مصدران جديدان بالنسبة إلى مصر، كان من المستبعد أن تلجأ مصر إليهما، لكن الفقر المائي دفع إلى استخدامهما حالياً في بعض المدن والمناطق التي تقع علي شاطئ البحر المتوسط أو البحر الأحمر، وهناك آمال عريضة لاستخدام تكنولوجيات جديدة من شأنها خفض التكلفة، وبالتالي التوسع في الاعتماد على تحلية المياه. ومع ذلك يرى البعض أن مهما انخفضت التكلفة فإن كل التجارب الدولية تؤكد أن تحلية مياه البحر تصلح فقط للحفاظ على بقاء البشر ولا تصلح للتنمية الزراعية، لكن من يدري فقد تتراجع التكلفة أو تظهر تكنولوجيات جديدة تغير من كل المعادلات والحسابات الحالية.

في الأخير يمكن القول إن سياسات مصر لإدارة ملفات الماء والري والغذاء تتسم بالكفاءة والقدرة على تحقيق توازن صعب، ففي عام 1959 كان عدد سكان مصر حوالى 25 مليون نسمة وحصتها في مياه النيل 55.% مليار متر مكعب، بينما وصل عدد سكان المحروسة إلى 95 مليون نسمة وحصتهم في مياه النيل ثابتة، والعجز المائي الحالي كبير، ومع ذلك لا يعاني المصريون من العطش أو نقص القدرة على زراعة الأراضي المتاحة، بل ومحاولة التوسع في أراضٍ جديدة، وربما يرجع ذلك لعبقرية مصر وفق تعبير جمال حمدان، والتي حققت هذه المعادلة الصعبة للحياة عبر التاريخ، لكن لا بد من الإشارة إلى كفاءة مدرسة الري المصرية وتوافر أعداد كبيرة من الخبراء والباحثين في مجالات الري والزراعة، ومع ذلك تظل معادلة الصعبة لمصر مطروحة بالحاح في المستقبل عندما يصل سكان مصر إلى 135 مليون نسمة عام 2050، سيحتاجون على الأقل لحوالى 135 مليار متر مكعب من المياه.

* كاتب مصري
 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة