الأربعاء ٢٤ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٣, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
الطرق كلها قد تؤدي إلى روما - آن أبلباوم
كانت «رابطة الشمال» حين أبصرت النور حزباً انفصالياً يدعو إلى تقسيم إيطاليا واستقلال محافظات الشمال. وولدت حركة الخمس نجوم أو النجوم الخمسة من رحم دعابة- فهي ولدت على يد ممثل هزلي ساخر- ثم تحولت إلى ثمرة وسائل التواصل الاجتماعي. والثبات ليس من شيم هاتين الحركتين، فكلتاهما تطور وتحول: رابطة الشمال تحولت إلى حزب يميني متطرف يتوسل إلى الناخبين بلغة عدائية في مقاربة المهاجرين، بينما انتهجت حركة الخمس نجوم بعض السياسات اليسارية التقليدية، ودعت إلى دخل جامع وعام ورفع مستويات الإنفاق الحكومي. واليوم، يشبكان الأيدي من أجل توجيه دفة الحكومة الإيطالية.


ولكنهما تواجهان صعوبات في صوغ برنامج مشترك- وهذا غير مفاجئ. فما تجمعان عليه- نظريات المؤامرة في مسائل اللقاحات الطبية، ومعارضة العقوبات الروسية، ولفظ سياسات التقشف عن بكرة أبيها- قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، أي إلى رد عنيف على المستويين الداخلي والأوروبي. ويتضح يوماً بعد يوم أنهما لا تعيران بالاً إلى السياسات المشتركة، على رغم ما يجمعهما من سمات: عدم التماسك، والغضب، والنأي عن الواقعية ومعاداة العلوم، والمهارة في استخدام تكنولوجيا المعلومات. فرابطة الشمال وحركة الخمس نجوم هما مرآة كل الانفعالات القوية ومشاعر النقمة والريبة والقلق التي هي في متناول الأحزاب السياسية المعاصرة. فهما مرآة خسارة السياسة سحرها وأفول بريقها وتبدد الأوهام. وإخفاق الشعبوية يرسخ ذواء الأوهام السياسية كلها.

وعلى رغم ذيوع الاعتقاد بأن الخطاب المعادي للنخب في إيطاليا هو ظاهرة طارئة على البلد هذا ومستجدة، تعود الشعبوية الإيطالية إلى سنوات خلت. وما نراه اليوم هو ما يحصل حين إخفاق الشعبوية. فالإيطاليون سبق لهم، في ماض قريب، خوض ثورة كبرى على النخب، وهي كانت ثورة على النخب ولو أن محامين وقضاة كانوا على رأسها. ففي التسعينات، أميط اللثام عن فضيحة فساد كبرى عُرفت بـ «تانجنتوبولي» Tangentopoli (مدينة الرشاوى)- وشملت الطبقة السياسية كلها. وترتب عليها فرار رئيس الوزراء حينها، بيتينو كراكسي، إلى تونس للنجاة من السجن، وثبوت تهمة الفساد على حوالى نصف أعضاء البرلمان، وإدانتهم، واندثار أو أفول نظام الأحزاب القديم (المسيحيون الديموقراطيون والاشتراكيون والشيوعيون).

وكان سيلفيو برلوسكوني، وهو البليونير الجميل البشرة المولودة من المبضع الجراحي، أبرز المستفيدين من هذه الاضطرابات.

وهو، بدوره، لجأ إلى عالم السياسة للنجاة من الملاحقة القضائية. وفاز برلوسكوني برئاسة الوزراء على طبق من الدعابات والوعود، وأمسك بالمنصب هذا طوال تسع سنوات، ومد إليه الحزب الجديد «فورزا إيطاليا» يد العون. وأوجه الشبه بين خطابه وخطاب ترامب كبيرة، فهو درج على إهانة الآخرين. وسار على نهج زعماء أميركا اللاتينية في إهمال الإصلاحات الفعلية. وفي أعوام حكمه، حارب المحاكم حين سعت إلى إدانته، ونظم حفلات ضخمة في سردينيا، وأخفق في تذليل العقد البيروقراطية والقانونية التي تطبق على التجارة الإيطالية وتخنقها.

وتلت حكم بيرلوسكوني سلسلة حكومات تكنوقراطية، وحكومة يسار وسطي، وسعت هذه الحكومات إلى إلقاء لائمة مشكلات إيطاليا المحلية على الاتحاد الأوروبي. ولكن إخفاق الشعبوية لم يؤدِ في إيطاليا إلى التماس الناس عودة الوسطيين المعتدلين إلى الحياة السياسية. فإثر خيبة الآمال والإحباط والوعود الكاذبة، لم يسارع الإيطاليون إلى التمسك بواقعيين من السياسيين النزيهين الذين لم يمطروهم بالأكاذيب أو لم يستبعدوا الخيارات القاسية. ففي إيطاليا، على نحو ما كان عليه الأمر في شطر راجح من دول أميركا اللاتينية، فاقم إخفاق الشعبوية كراهية «النخب»، الفعلية والمتخلية على حد سواء، وغذى الطلب على التغيير الجذري والمتعذر، وتعاظم الشعور بالاغتراب السياسي.

ولا شك في أن الحكومة الإيطالية هذه قد لا تبصر النور. وعقد التحالف بين الحركتين قد ينفرط. فناخبو رابطة الشمال الذين يرغبون في اقتطاعات ضريبية قد يجبهون ناخبي حركة الخمس نجوم الذين يريدون زيادة الإنفاق العام زيادة ضخمة. وإذا اختارت الحكومة التزام الإجراءين في وقت واحد، الاقتطاع الضريبي ورفع الإنفاق معاً، انزلقت البلاد إلى أزمة مالية. وإذا انتهجت سياسات مسؤولة، غامرت بإطلاق موجة جديدة من معاداة النخب والسياسة.

ويبدو أن إيطاليا مستودع دروس يسع الأميركيين النهل من معينه. فإثر انتهاء ولاية ترامب، ليست العودة لا محالة إلى سابق عهد الولايات المتحدة بالمساومات بين وسطيين محافظين وليبراليين يحترمون الدستور ويرفعون لواء مواطنة تحتكم إلى تعريفاتها القديمة (ما قبل ترامب)، ويُنتخبون بناء على إنجازاتهم وخبراتهم ورؤاهم الانتخابية. والأغلب على الظن أن يقترع الناخبون لمرشحين غير مسؤولين وغير عقلانيين. وعليه قد ينبئنا ما يجري في روما بما ينتظرنا في أميركا.

* مؤرخة، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 18/5/2018، إعداد منال نحاس
 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة