الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ١٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الدولة عالقة ... سلمية كانت أو عنيفة - محمد الحدّاد
بين سعد الحريري وقد جنّب بلده أخطاراً ضخمة بالتراجع عن استقالته، وعلي عبدالله صالح وقد قتل شر قتلة، يبدو كأننا نقف أمام الخيارين الأساسيين اللذين أصبحا متاحين اليوم أمام البلدان التي حاولت أو تحاول أن تتخلص من البنية التقليدية القديمة وتؤسّس دولة بالمعنى الحديث.

الخيار الأول هو خيار الدولة العالقة السلمية، حيث لا يبلغ المجتمع حدّ التنظيم السياسي الحديث، لكنه ينجح في امتصاص الصدمات وتجنب الفوضى والعنف، ويراكم فنّاً في السياسة يقوم على القدرة على الخروج من المأزق كل مرة من دون حلّ المشكلات من الأساس. أن يوجد في لبنان حزب أقوى عسكرياً من الدولة، وإلى ذلك هو قادر على أن يشنّ حروباً في الخارج، هذه وضعية قد لا نجد لها مثيلاً في التاريخ الحديث. وأن يأتي التأكيد من طهران على أن قضية تسليح هذا الحزب ليس أمراً مطروحاً للتفاوض، لهو مؤشر على أن تغيير الوضع أمر بعيد المنال، وهو في كل الحالات خارج عن الإرادات الداخلية. لا يوجد كاتب أو مفكر سياسي إلاّ اعتبر مسألة احتكار الدولة للعنف شرطا رئيساً لاستحقاقها اسم الدولة. لكن من جهة أخرى، يتحدّى النموذج اللبناني كل النظريات الحديثة في الدولة، لأنه منذ اتفاق الطائف إلى اليوم يثبت بصفة مذهلة قدرته على تجاوز كل المطبّات الداخلية والخارجية، ومع كل أزمة ينجح في إيجاد مخرج موقت إلى حين انفجار أزمة أخرى. ويعيش الناس فيه بطريقة شبه عادية في ظل توالي الأزمات، ليست أسوأ من عيش الآخرين في بلدان غيره، من دون أن نرى مثلاً هجرات مكثفة أو انهياراً كلياً للبلد. وما من مرة يتنبأ فيها المحللون بالكارثة الكبرى إلاّ وتحصل المعجزة. وإذا كان لبنان قد نجح في المحافظة على الاستقرار على على رغم الدمار السوري، فإنه سينجح قطعاً في الخروج من أزماته القادمة. بل إن اللبنانيين أصبحوا قادرين على التعايش مع الحدّ الأدنى من الدولة ولو في شؤونهم اليومية، مثل توفير المواصلات والكهرباء، وهذا فن في الإدارة الذاتية تغبطهم عليه الشعوب الأخرى.

لئن لم يكن هذا الخيار عقلانياً ومنضبطاً بشروط الدولة الوطنية، وهو إلى ذلك مكلف اقتصادياً وضاغط نفسياً على المواطنين، فإنه يعتبر الخيار الإيجابي المطروح، لأن مقابله هو الدولة العالقة الغارقة في العنف، على غرار اليمن وسورية وليبيا والعراق وقبلها جميعا الصومال. فلم تحظ هذه البلدان بقيادات «حكيمة» تتصارع من دون أن تدمّر البلد على رؤوس أهله. وعلي عبدالله صالح نموذج من القيادة المتهوّرة العنيفة، كانت نهايته نتيجة منطقية لأطوار حياته. ولقد سنحت له فرصة نادرة بعد «الثورة» اليمنية ليسلك مسلك الرئيس التونسي المخلوع، فيقيم إقامة آمنة ويحصّن نفسه من الملاحقات الجنائية، مقابل ترك البلد يبحث عن طريقة في الانتقال السياسي السلمي. لكن في المحصلة، أساء صالح إلى اليمنيين في حياته، وسيسيء لهم أكثر بمماته، إذ ستشتد النزاعات القبلية وتقوى سطوة الحوثيين وخوف الناس مهم، وإذا كان هذا مصير من تحالف معهم فكيف سيكون مصير خصومهم لو أنهم حققوا يوما الغلبة في هذا البلد المنكوب؟

على شبكات التواصل الاجتماعي، رأينا تعاطفاً كبيراً في البلدان العربية مع الحريري الذي بدا يحاول جاهداً أن ينقذ بلده من الكارثة بكل السبل، كأن المواطن العربي اليوم لم يعد يبحث عن الزعيم البطل، بل عن السياسي الذي يجيد دور الضحية فينقذ ما يمكن إنقاذه ويجنّب بلده العنف والفوضى. لقد فقد العربي اليوم الأوهام الكبرى، باستثناء العاملين في قناة «الجزيرة» والخبراء والمحللين المقيمين في البلدان الغربية، هؤلاء آخر فيالق الثورة العربية يقودونها من ملاذاتهم الآمنة والمريحة، حيث لا يتعرضون إلى تبعاتها ومضارها، ويمكن لهم أن يزايدوا إلى ما لا نهاية دون تكلفة.

النموذج اللبناني جدير بأن يدرس بعمق وجدية، وأرى أن النموذج التونسي يقترب منه أيضاً، حيث يفقد الشعب بدوره الأمل في أن يحلّ السياسيون مشكلاته، ولا يطلب منهم أكثر من أن يحلّوا مشكلاتهم بين بعضهم البعض بأقل تكلفة على البلد.

قبل عقود، كتب عالم الأنتربولوجيا بيار كلاستر كتاباً شهيراً عنوانه «المجتمع ضدّ الدولة»، عارض فيه النظريات التطورية التي تعتبر قيام الدولة أعلى درجات الرقي للمجتمع، وأكّد أنّ المجتمعات التي درسها في أميركا اللاتينية (المدعوّة بالبدائية) لم تفشل في تأسيس دولة بل اختارت لها مساراً مختلفاً ينأى بها عن الحاجة إلى الدولة، فهي مجتمعات ضدّ الدولة وليست مجتمعات بلا دولة. قد يكون من المفيد اليوم أن نراجع كلاستر ونعدّل نظريته بأن نخلّصها من طابعها المثالي لتصبح نظرية في تلطيف المصائب: إذا ما تأكد إلى حدّ اليوم فشل كل نموذج للدولة غير الدولة الوطنية، وترجّح في الآن ذاته عسر تطبيق نموذج الدولة الوطنية في مجتمعات معينة، فقد يكون من المفيد أن نحوّل القضية من سؤال الدولة إلى سؤال كيف يمكن تجنب العنف وتحقيق الحدّ الضروري من العيش المشترك في ظل دولة عالقة ضعيفة، كأنها اللادولة، لا تحتكر العنف لكن يمكن أن تساهم في احتوائه والتقليص من منسوبه؟


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة