الجمعه ٢٦ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٢٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في تخيل العيش والعمل المشترك - إبراهيم غرايبة
كيف يمكن المواطنين أن يبنوا السلام بعد نزاع داخلي عرقي أو إثني أو قبلي أو ديني أو مذهبي أو سياسي أو جهوي عنيف؟ ليس الحديث هنا عن المواجهة الفكرية و/ أو الدينية مع التعصب والتطرف والكراهية والصراع على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية، ليس تقليلاً بالطبع لأهمية العمل الفكري في بناء الاعتدال والعيش المشترك والتقبل المتبادل، وليس أيضاً عن دور التشريعات والقوانين والمؤسسات الرسمية والسيادية ومسؤوليتها في بناء المواطنة والمساواة والوحدة وسيادة القانون، وليس ذلك أيضاً تجاهلاً لأهمية هذا الجانب، العكس هو الأهم.

لكننا نحتاج أن نفكر على مستوى الأفراد والمجتمعات والجماعات؛ ذلك أنه لا يمكن للتشريعات والقرارات السياسية أن تنشئ السلام وإن كانت تحميه و/ أو تشجع عليه، ومن المؤكد أن دولا مثل العراق وسوريا وليبيا لم يكن ينقصها إرادة سياسية في الوحدة والتماسك، وكانت تملك أجهزة ومؤسسات أمنية وتنظيمية وثقافية وموارد كبرى مسخرة لأجل الوحدة والتماسك، لكن ويا للغرابة تبين أنها تملك بيئة أكثر من غيرها للانقسام والنزاع والكراهية والتطرف!

الحال أنه لم يعد ممكنا تصور بناء السلم من غير مشاركة مجتمعية واسعة وبطبيعة الحال من غير مدن ومجتمعات مستقلة قادرة على إدارة أولوياتها والتأثير في السياسات والمصالح باتجاه مصالحها وأهدافها، فالمجتمعات هي التي تحول السياسات والتشريعات إلى أسلوب حياة يعمل تلقائياً من غير قهر مؤسسي وسلطوي، ولا يمكن بدون هذه الشراكة بناء هوية وطنية جامعة تستوعب و/ أو تلطّف الهويات الفرعية، بل يمكنها أن تجعل من هذا التعدد والتنوع مصدرا للثراء الاجتماعي والروحي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، ولكن ولسوء حظ السلطة السياسية وسوء حظنا أيضاً لا يمكن بناء هذه الشراكة من غير وجود مدن ومجتمعات حقيقية تملك مواردها وقياداتها المستقلة عن السلطة، وتملك أيضا القدرة على التأثير.

لقد بذلت السلطات السياسية جهودا وأموالا طائلة لأجل تنظيم المجتمعات وتوجيهها، لكنها بوصايتها المباشرة ومظنتها أنها تستطيع حشد المواطنين عندما تلحق بها البلديات والنقابات ومؤسسات المجتمع وتغدق عليها بالإنفاق، وتغمرها بالإعلام والإرشاد.

لكن في المقابل، فإن المجتمعات أكثر استعداد لحمل لمشاعر وذكريات الكراهية والعدائية والرغبة في الانتقام، وأكثر قدرة على المزاوجة بين أفكار ومقولات الاعتدال والواقعية وبين المشاعر البدائية، هذا الذكاء المجتمعي تطور عبر القرون من الاضطهاد، وبخاصة في بيئة معقدة مثل شرق المتوسط، لأجل حماية الذات ونقل الذاكرة في شيفرة معقدة تتحايل على السلطة وإكراهاتها. كانت هذه المشاعر في ذكائها وقدرتها على العمل الحيلة الممكنة والواقعية للحفاظ على الذات، وكانت المهارة الأخرى فائقة الذكاء للكراهية والبداءة في قدرتها على الاندماج والتمويه في جماعات وأفكار واتجاهات أيديولوجية قومية أو دينية وتحويل الجماعات الأصولية والقومية واليسارية إلى كتل معبأة ومنظمة من القبائل والعشائر والطوائف. لكن ثمن هذه الحيلة كان بناء كراهية راسخة مثل كتلة من العفن اكتست بقشرة سميكة صلبة متماسكة وهجينة من الدين والإثنية والتاريخ والأساطير والخرافات، وأسوأ من ذلك ردة إلى الذاكرة العميقة!

كيف تتطور الأفكار والاتجاهات باتجاه الاعتدال و/ أو الواقعية وتظل المشاعر بدائية؟.. مشاعر الصياد الذي لا يرى ما أو من حوله سوى غنيمة أو عدو، والحال أن المشاعر تنشئ الأفكار، وعندما يكون تناقض بين الأفكار والمشاعر فلا بد أن الأفكار ليست حقيقية، ولا يمكن النظر بجدية الى افكار ومقولات الاعتدال والواقعية الا اذا كانت مصحوبة بمشاعر معتدلة وواقعية. الذين يحملون مشاعر الكراهية والتعصب في الوقت الذي يتبنون أفكاراً معتدلة ومتسامحة وتدعو إلى التقبل والحوار لم يغادروا مربع الصياد الخائف.
 
 
* كاتب أردني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة