الثلثاء ٢٣ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
هل نحن اليوم أمام ثورة الأقليات؟ - محمد الحدّاد
بين استفتاءين، أحدهما في كردستان العراق والآخر في منطقة كاتالونيا الإسبانية، تظهر بوادر خطيرة بانتقال العالم إلى محنة جديدة. لقد بدا في لحظة ما أنّ العالم يتوحّد حول محاربة الإرهاب، بما يبشّر بنهاية قريبة لأقاليم الإرهاب التي ترعرعت في السنوات الأخيرة مستفيدة من اختلاف المواقف الدولية واضطرابها، وبتراجع العمليات الإرهابية التي استفادت من سوء التنسيق العالمي في هذا الموضوع. لكن من الواضح أنّ الأمل في الاستقرار لن يستمرّ طويلاً، فضلاً عن أن يتحقّق الاستقرار ذاته في الأمد المنظور. فحروب الأقليات ستحلّ مستقبلاً محلّ حروب الإرهاب.

كما ضرب الإرهاب الجميع، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فإنّ ثورة الأقليات ليست محصورة في منطقة بعينها. تزامن الاستفتاءان الكردي والكاتالوني مجرد مصادفة، لكنها مصادفة تؤكّد الطابع «المعولم» للقضية. وما يحدث في كاتالونيا لا يهم إسبانيا وحدها، فجزء من هذه «الأقلية» يمتدّ إلى فرنسا، بما يعني أنّ الانفصال إذا ما تحقّق يوماً فإنه سيشجع على عودة الروح لحركات كانت قد صنّفت في السابق على لوائح الإرهاب في أوروبا. يمكن أيضاً أن يستعيد الكورسيكيون في فرنسا مطالباتهم بالانفصال وهم الذين لم ينضموا إلى فرنسا إلا في بداية التاريخ المعاصر. بلجيكا أيضاً مهدّدة بصراع متجدّد بين مكوّنيها العرقيين واللغويين، وقد لا يترتب على هذا الصراع مجرد تعطيل تشكيل الحكومة كما حصل في السابق لمدّة تجاوزت السنة، بل فرض الأمر الواقع وتقسيم البلاد. وللتذكير، فإن بلجيكا ذاتها انفصلت عن هولندا بسبب الاختلاف الديني (بلجيكا ذات غالبية كاثوليكية وهولندا بروتستانتية). أما إيطاليا، حيث الجميع من الدين والعرق نفسَيهما، فهي تعيش تقابلاً حادّاً بين الشمال المصنّع والجنوب الفقير، وفي ظلّ عودة الروح للمطالب الانفصالية، بالإضافة إلى تصاعد اليمين المتشدّد في أوروبا، فلن تكون مستبعدة عودة قوية لرابطات الشمال التي كانت تدعو للانفصال وتقسيم البلاد.

وكل هذه السيناريوات، وغيرها أيضاً، ليست من قبيل الخيال العلمي لأنها ترتبط بحركات احتجاجية أو مسلحة نشطت في السابق على مدى عقود ولم يتراجع حضورها وتأثيرها إلاّ في السنوات الأخيرة، من دون أن تتراجع مطالبها وآمالها. فيمكن أن تعود في أية لحظة إذا ما رأت الفرصة سانحة، لا سيما أنّ الوضعين الاقتصادي والاجتماعي الضاغطين، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، يمثلان باستمرار عاملاً مناسباً لتنامي مثل هذه الحركات.

لقد أشرنا إلى أوروبا بدل الشرق الأوسط لنؤكد أن القضية أبعد من أن تكون مناورة أو مؤامرة ضدّ شعوب بعينها، كما يتبادر إلى الأذهان عندنا، مع أنّ الوضع في أوروبا والشرق الأوسط متفاوت، إذ قد ينتج فائض عنف أكبر بكثير هنا ويكون أقلّ ضرراً هناك. والقضية الكردية الموزعة على بلدان عدّة في المنطقة تشهد على التعقيدات البالغة والأخطار المحتملة، وكذلك الشأن في ليبيا التي قد تؤدّي إلى تعقيدات في المغرب العربي كله. لكن جوهر الموضوع واحد وهو ضغط العولمة على نموذج الدولة الوطنية من دون أن تقدم العولمة بديلاً لهذا النموذج سوى الانفصال.

إن منطق تقسيم الدول يمكن أن يكون ضرورياً في حالات خاصة، لكنه في الغالب يؤدي إلى تواصل مسلسل التقسيمات، فلا توجد مجموعة بشرية «نقية» عرقياً ودينياً ولغوياً كي تضمن تماسكها الأبدي، فضلاً عن كون الخلافات السياسية قادرة بدورها على تفجير المجتمعات ولو كانت متجانسة.

الإدارة الديموقراطية حلّ لتعايش مكونات مختلفة في بلد واحد، وهذا ما فشل في العراق بعد 2003، وليبيا بعد 2011، لكن من الواضح أيضاً أن الديموقراطية ليست شرطاً كافياً، فهي موجودة في أوروبا ولم تحلّ المشكلة. يبدو حالياً أنّ البلدان ذات التنظيم الفيديرالي أو شبه الفيديرالي العريق، مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، هي الأبعد عن مواجهة أخطار الحركات الانفصالية، فقد خبرت منذ فترة طويلة إدارة التعددية في مستوى المجموعات أو الأقاليم، عكس الديموقراطيات المركزية («اليعقوبية») التي تلغي كل اعتبار لخصوصيات المجموعات والأقليات ولا تعترف إلا بعلاقة مباشرة بين الدولة والفرد المواطن. والفارق واضح بين الاندماج الطوعي للمواطنين في دولة واحدة ومجتمع واحد مع الاعتراف بالتعددية والتنوع، وبين أن يُحمل المواطنون قسراً على الاستجابة لمقاس ما تريده الدولة من المجتمع.

وفي أوروبا، يمكن الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور احتواء الصراعات عبر الاضطلاع بالدور الإدماجي للأقليات، أما في الشرق الأوسط فلا توجد حلقة وسطى يمكن أن تضطلع بهذا الدور، بما يمثل أيضاً عامل تأزيم إضافي. لذلك ينبغي على دوله أن تكون الأكثر حرصاً على الانفتاح على مختلف المكونات الاجتماعية والاعتراف بها، منعاً لانفجارات يصعب التحكم فيها إذا ما حصلت، فلا تطرح المشاريع الانفصالية إلا في الحالات القصوى التي تتأكد فيها استحالة التعايش، فتكون الاستثناء لا القاعدة.

الأكيد أن ثورات الأقليات ستكون محور السياسات الوطنية والدولية في العقود المقبلة، وعلينا أن لا نكتفي بالمتابعة أو التنديد، بل يتعين أن نراجع أيضاً نظرياتنا وقناعاتنا في مجال تحديد هويات المجتمعات والدول، وأن ندفع باتجاه إصلاح الدول الوطنية حماية لها من أخطار الانفجار.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة