الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
برلمانية التوافق في ذمة من أُعطِي لهم مجد لبنان - أحمد بعلبكي
يقضي التوقف أمام أزمة تشريع نظام التمثيل البرلماني في لبنان اليوم التذكير بمبادﺉ البرلمانية الليبرالية والفرنسية منها خاصة التي استُلهم منها التشريع اللبناني وهي برلمانية قامت على مبدأي المواطنة والاندماج الاجتماعي. وهذان المبدآن تميل زعامات الكتل البرلمانية اللبنانية في خطاباتها أن تسند اليهما طروحاتها حول مشروع قانون للانتخاب يضمن تجدد حضورها التوافقي في مستويات التشريع والحكم والادارة العامة للخدمات. وقد بلغ التطور في احتكار امراء الطوائف للتمثيل الزبائني لعوامها حد التسليم بحق الفيتو "الميثاقي" لأي منها على أي تشكيل للحكومة او على اقدامها على أي قرار، ولو سيادي، لا يحوز على اجماع اطرافها. وبهذا تكون قد بلغت في تميٌّز ليبراليتها بين الأنظمة البرلمانية في العالم فرادة غير مسبوقة تقوم على نظام "برلماني" لا مكان فيه لأي معارضة. 

واذا كانت أشكال ومستويات الاندماج المجتمعي هي التي تُعيّن للناخب الحدود المتاحة له لممارسة حقه الذي ينص عليه القانون في انتخاب ممثليه، وهو حق ارتكز في فرنسا وفي الولايات المتحدة على بناء المواطنة الذي كرسته الثورتان الأميركية والفرنسية في الربع الأخير من القرن 18، هذه المواطنة التي قامت على حرية الفكر والتعبير والمساواة أمام القانون وانتهت في فرنسا باعتماد حق التصويت في دستور 1791، الاّ أن النص على هذا الحق تطلب مواجهات سياسية اجتماعية حامية لاقراره استمرت 57 عاماً لتنتهي عام 1848 بغرض نظام للانتخاب حصر التصويت بالذكور فانتظرت النساء من بعده 96 عاماً لممارسة حقهن بالتصويت.

هكذا تدرج بناء المواطنة وهكذا تدرج وعي الفرد لحقوقه الشخصية وارتباطها بالقانون الذي يُحددها له فيمارس المُشاركة السياسية بهويته الفردية كهوية أولى غير محكومة بعلاقات القرابة ولا بانتمائه الديني. ومثل هذه الهوية لا يرتقي اليها الفرد الاّ في ظل ما سماه ابن خلدون () بـ"الاجتماع الانساني ( وهو اجتماع ) ضروري يعبر عنه الحكماء بقولهم ان الانسان مدني بالطبع أي لا بُد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران ليحقق كفايته... وأن اجتماع المدنية والعمران لا يتحقق الاّ بضرورة وجود الحاكم الوازع... يرجعون اليه وحكمه فيهم يكون مستنداً الى شرع مُنزل من عند الله يوجب انقيادهم اليه ايماناً منهم بالثواب والعقاب... وتارة الى سياسة عقلية يوجب انقيادهم اليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته مصالحهم".

ان مثل هذه الاشارة الخلدونية الى السياسة العقلانية كأبرز قوانين تطور العمران وضمان الانتقال من عصبية المجتمع البدوي الى مجتمع العمران المديني القائم على تبادل المصالح في أسواقها، تذكرنا بزمن كان قد حيل دون مثل هذا الانتقال في المدن العربية نتيجة اطباق الامبراطورية العثمانية على امتداد أربعة قرون، لتفرض عليها ترسيخاً لاقتصاد الريع وتعويقاً لاستقلال نمو مواردها ولمراكمة عمران مجتمعاتها، تعويقاً واصله الاستعمار الغربي وما نجم عنه حتى اليوم من استتباع سياسي وثقافي.

وتجسد هذا الاستتباع في تأسيس ما سُمّي بـ"دول وطنية" ومنها لبنان تقتبس تشريعات مدنية مُعدّلة لبناء سلطات تحكم الاقتصاد بمركانتيلية مُفرطة لا أهداف تنموية لها تعزز التكامل والترابط بين القطاعات والمناطق والجماعات. فعمق الاستتباع بينها اشكالاً من التفارقات المشرعة دستوراً في توجهات التعليم والثقافة وما يرتبط بهما من تفارقات في الولاءات السياسية بين نخب الطوائف وعوامها وتفارقات بين المساعي الدائمة لزعاماتها لعقد ارتباطات سياسية خارجية واقليمية بهدف تعزيز مواقعها في تقاسم السلطة.

وأدت هذه التفارقات المتمأسسة الى تعميق الفجوة بين المضامين المدنية للبرلمانية المقتبسة التي تنص على المشاركة السياسية للبنانيين وبين ميول وسلوكيات الأكثريات في الطوائف لتجديد موالاتها عبر الانتخابات البرلمانية للزعامات الطائفية وتحالفاتها بما يضمن استمرار شرعية تنفذها في السلطة والادارات الحكومية وفي توزيع خدمات هذه الادارات وفق نهج زبائني. نهج يتعهده وجهاء محليون يوجهون تصويت المنتفعين أو الموعودين بالتنفع. وعلى عكس ما يُلاحظ في البرلمانيات المتطورة حيث يكثر الغياب عن المشاركة السياسية في التصويت وخاصة في الأرياف بفعل تراجع التحزب وهذا ما برز خاصة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية (2017)، فان أجهزة الزبائنية والتنفيع في لبنان تنجح في تعبئة أكثريات العوام المهمشة في المدن والأرياف وتقودها الى المشاركة حتى أبواب أقلام الاقتراع. ان ظاهرة التوسع في تعبئة الأرياف تخالف في لبنان ما ذهب اليه (Alexis de Tocqueville) في مراهنته على الربط بين تحصين الحرية قي المجتمع وتعزيز الثقافة في الجماعات المحلية ومدارس القرى وذلك في قوله: "في الجماعة المحلية (أو القرية) تقوم قوة الشعوب الحرة. فالمؤسسات المحلية (كالبلديات مثلا) تمثل بالنسبة للحرية ما تمثله المدارس الابتدائية بالنسبة للعلم: بمعنى أنها تضع العلم في متناول الشعب".

وعلى عكس القصد من هذا القول فان زعامات النهج الزبائني في لبنان تراهن في عمليات تجديد انتخابها على أولوية التعبئة الطوائفية والعوائلية الكفيلة بضمان توصيلها الى شرعنة تحكمها بتوزيع خدمات الادارات الحكومية كما بتوزيع الاعفاءات من مستحقات في مخالفات نصوصها. وقد حصر النواب مهماتهم في توزيع الخدمات على وجهاء ناخبيهم أو في مساعيهم لاعفاء المخالفين منهم في المدن كما في الأرياف ممن نزحوا الى العاصمة وضواحيها بعد أن فقدوا فرص العمل في القطاع الزراعي والحرفي بسبب فرض سياسة تحرير الأسواق واغراقها منذ مطلع التسعينات بالاستيراد الاغراقي.

وانطلاقاً من هذا الاختزال لمهمات النواب وقصرها على الخدمات المرسِخة للولاءات الزبائنية بات الحرص الأول لزعماء الطوائف في تشريع قانون الانتخاب يقتصر:

على ابقاء دوائر ترشحهم في حدود المحميات المذهبية التي حصّنوا فيها، وعلى امتداد دورات متعاقبة، موالاتهم المحلية. وضمنوا فيها أيضاً ولاء مرشحي الأقلية المذهبية المطواعين في دوائرهم المحمية متعهدين في المقابل لهم و/ او لزعماء مذاهبهم، بتجديد انتخابهم. وقد اقتصرت مراوحة حدود المحميات الانتخابية أو الدوائر بين دورة انتخابية وأخرى بين حدود القضاء الواحد وبين حدود المحافظة (أي حدود ستة أقضية) ولكنها ظلت قوانين متوافقة مع مقاصد الزعامات الطائفية المراهنة في تنازعاتها على السلطة داخل المذاهب وبينها على دعم الأطراف الاقليمية والدولية.

لقد فرضت تعددية الدعم الخارجي للزعامات الحاكمة توازناً سياسياً ينعكس توافقا أمنيا داخل البلاد. ويختل هذا التوازن تحت ضغوط خارجية مستجدة أو تحت ضغط تغير في تشكيلة الزعامات المذهبية وتحالفاتها (ظهور التيار العوني وتحالفه مع القوات اللبنانية) مما يفرض تعديلات في نظام توزع الأصوات والنجاح (سواء وفق النظام الأكثري أو وفق النظام النسبي) كما ويفرض تعديلات في خريطة الدوائر الانتخابية فيبرز الحرص على منطق الجمع الأقصى لممثلي المذهب في حدود الدوائر أو في حدود معدّلة لمحميات أكثرياته المذهبية تحت ذريعة تحرير مرشحي أقلياته المذهبية لصالح التحاقها بلوائح دوائر الأكثريات التي ينتمون اليها باعتبار أنهم مصادر والقرار لدى زعيم الأكثرية من غير مذهبهم ويبرز في المقابل حرص زعيم لائحة الأكثرية المذهبية على ابقاء ممثلي الأقلية هؤلاء في لائحته بذريعة أنه "راع" لوطنية التمثيل وليس لمذهبيته.

ويظهر تقبل زعماء الكتل الحاكمة لنظام النسبية وانتزاعه من خطابات المعارضة غير الطائفية وكأنه تقبل منهم "لعصرنة" قانون الانتخاب وهم الذين استطاعوا بدعم خارجي اجمالاً، حوالى خمسة عقود، ابعاد منافسين من مذاهبهم وتحصين احتكاراتهم الزبائنية الاغاثية والخدماتية في محمياتهم المذهبية. وها هم اليوم يُزايدون على تلك المعارضات المتشرذمة فيقضون سنوات في مناقشة عبثية لمقترحات في خطاب النسبية يكيفونها لصالح ترشيحاتهم وفق تقنيات ما يُسمى بعتبة التأهل للنجاح في المنافسة وما يُسمى بالصوت التفضيلي والحدود الجغرافية ارتدادات احتسابه لحساب من حظوا به بين أفراد اللائحة. وبلغوا في مزايداتهم بالعصرنة والانفتاح استعدادهم لأي منازلة في دوائر محمياتهم المذهبية أيّا كان قانون الانتخاب وهم يعلمون أن احتكارهم المتمذهب لأجهزة الادارات الحكومية القضائية والخدماتية والاغاثية تجعلهم أمام قواعد مذاهبهم بمأمن من أي منافسة يمثلها ترشيح أالديموقراطيين فعلا في سبيل تحرير الانسان وتقدم المجتمع وحماية موارد الدولة من الفساد والهدر.

ومن مفارقات انفتاح وعصرنة بعض الزعماء المسيحيين المتمثلة في حرصهم في بعض ما يطرحونه من أنظمة انتخابية تنص على استعادة نواب الأقليات المسيحية المرشحين على لوائح الأكثريات الاسلامية لينضموا الى دوائر محمياتهم وينتخبوا بأصوات وبتعبئة مسيحية صافية فيرفعوا بالتالي عدد نواب طائفتهم في التشريع وفي الحكم والحكومة. وكما وفي حرصهم المتمثل في بعض آخر مما يطرحون من أنظمة انتخابية قائمة على اقناع المسلمين بأن لا اطمئنان للمسيحيين في مشاركتهم الميثاقية في الدولة الاّ بتكريسها نصاً في الدستور. ان مثل هذا الطلب يُبعد عن تقبل المسلمين وهم ثلثا اجمالي المسجلين لميثاقية المناصفة في ظروف هددت وتهدد الوجود المسيحي في البلدان المجاورة، يُنكرالطابع الأخلاقي السياسي لهذا التقبل. وهو تواثق عال وتنازل ممن يقدرون لمن يستحقون وأن النصوص الدستورية لا تحمي أي طائفة عندما تأتي الظروف الخارجية لمحاصرتها او لتحرك تجار العصبيات ضد هذا التنازل. وأن الطابع الأقلوي للطوائف اللبنانية قد يدفع أي منها لطلب ترسيخ اطمئنانها واحتضانها وفي هذا الصدد قد تكون طائفة الموحدين الدروز، وهي الأكثر أقلوية (اقل من 7% من اجمالي اللبنانيين) وفي أوساطها تنمو دعاوى القلق، فهل يمكن أن يطمئن مغالوها برفع مشاركتها الى نصف ثلث؟ لقد كان وعي قادتها (شكيب وعادل أرسلان وسلطان الأطرش وكمال جنبلاط) منذ قرن وأكثر وعيا وطنيا اندماجيا عالياً عندما تصدروا قيادة التنظيمات العروبية والاسلامية فطرحوا ما يُحصّن العروبة والاسلام بغاية التحصُّن بأي منهما.

أستاذ جامعي وباحث في علم الاجتماع 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة