الأربعاء ١٧ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ١٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الحكم اللبناني ومنظومته الأيديولوجية - خالد غزال
يتجه الحكم اللبناني المتشكل نهاية العام الماضي الى استنساخ أنظمة عربية لجهة اكتساب طرق الاستبداد وممارستها لبنانياً. يأتي هذا الدأب على الاقتباس في سياقات لبنانية مختلفة عن العربية تماماً. فالاستبداد العربي، الذي بدأت منظومته تنهار في السنوات الأخيرة، كانت له لحمته الايديولوجية المتمثلة بالشعارات القومجية في التحرر من الاستعمار وقيام الوحدة العربية والتصدي للمشروع الصهيوني، إضافة الى جملة تقديمات اجتماعية، أعطت هذا الاستبداد نفحة من التأييد الجماهيري غير قليل. فما هي «اللحمة الأيديولوجية» التي سيستند اليها الحكم اللبناني في بناء منظومة بدأت سماتها تتجلى عبر القمع المادي للحريات السياسية وكبح جماح المعترضين على ممارسات أهل الحكم؟

أول مظاهر الاستنساخ الاستبدادي العربي من الحاكم اللبناني تتجلى في التفرد بالسلطة والتجاوز على المؤسسات الدستورية التي يقوم عليها النظام البرلماني اللبناني، وعلى الأخص مسألة الفصل بين السلطات. كوّن الحكم اللبناني سلطات موازية لما ينص عليه الدستور. أقام حكومة من المستشارين تعمل تحت سلطة الرئيس مباشرة وتتدخل في شؤون الوزارات كلها، وتفرض قراراتها على الوزراء الأصليين الذين جرى تعيينهم عند تشكيل الحكومة ونيلها الثقة من المجلس النيابي. يسير النظام، بحكم الأمر الواقع، الى أن يكون نظاماً رئاسياً يمتلك الرئيس فيه صلاحيات مطلقة واستثنائية، خلافاً لما نص عليه اتفاق الطائف المقر كتسوية لبنانية عام 1989.

يفيد الحكم من التركيبة السياسية للطاقم الحاكم حيث يفتقد معظمه الى الخبرة السياسية والى ممارسة الحكم، فمعظمهم من الموظفين التقنيين أو من الذين كانوا مستشارين لوزراء سابقين او حاليين. يجهل معظمهم طبيعة النظام اللبناني والتركيبة الاجتماعية والطائفية للمجموعات اللبنانية، كما يجهلون، أيضاً في معظمهم، تاريخ لبنان وحروبه الأهلية وعواملها ونتائجها، بحيث يبدو بعضهم كأنه آتٍ من عوالم مجهولة لا صلة لها بلبنان، كياناً ونظاماً ومجتمعاً وتقاليد سياسية.

قبل مجيء هذا الحكم الى السلطة، وبعدها مباشرة، استندت منظومته الايديولوجية الى عناصر هجينة وغير مقنعة للمجتمع اللبناني. في البداية، صعّد التسعير الطائفي تحت حجة استعادة حقوق المسيحيين المسلوبة منهم في اتفاق الطائف. وخلال نقاش قانون الانتخابات وصل التسعير الطائفي والمذهبي الى حد وضع البلاد على شفير الحرب الأهلية. وهو خطاب لا يزال يشكل ركيزة اساسية في اللحمة التي يقوم عليها الاستبداد اللبناني. في المقابل، أعلى من التصعيد ضد النازحين السوريين، واعطاها طابعاً عنصرياً، لكونهم سيقلبون الجغرافيا والديموغرافيا اللبنانية ويهددون لبنان بالزوال. وهو خطاب تتزايد نبرته هذه الأيام، خصوصاً بعد العمليات العسكرية ضد الارهابيين في جرود عرسال وما تبعها من ممارسات من القوى العسكرية أدت الى وفاة بعض الموقوفين من التابعية السورية. وهو ما فجر أيضاً احتجاجات ونقداً دفع ثمنه بعض المنتقدين على وسائل التواصل عبر اعتقالهم وزجهم في السجن. ترافق ذلك مع تحريض ضد النازحين وافتعال تضامنات مع المؤسسة العسكرية، بما يذكر ببدايات الحرب الأهلية في السبعينات.

اذا كان الحكم لم يتحمّل نقد المؤسسة العسكرية، فهو ايضاً لم يتحمل نقد ممارسات بعض الوزراء الذين فاحت رائحة الصفقات والرشاوى في وزاراتهم، فعمد بعضهم الى رفع دعاوى قضائية وصل عددها الى نحو 400 دعوى ضد ناشطين انتقدوا ممارسات وزراء الحكم. هل يمكن المواطن اللبناني أن ينسى صفقة الكهرباء التي رفض مجلس الوزراء إقرارها لخلافات داخله، ما قد يكون عائداً لاستفادة طرف وحرمان آخر. فقد جرى تزوير قرار المجلس عند إحالته الى دائرة المناقصات. اذا لم يكن من صفقة مشبوهة، فلماذا لجأ الوزير المختص الى التزوير؟ والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير استشاط غيظاً من كشف الفضيحة وقرر ملاحقة الكاشفين قضائياً.

في حكم لم يظهر من نتائج ممارساته حتى الآن سوى تسويات بين أركانه وتقاسم المنافع من الصفقات الخدماتية، وانتشار رائحة الفساد في معظم الوزارات الخدماتية. حكم يريد قمع المواطنين من دون أن يقدم لهم تحسيناً لمستوى المعيشة او الخدمات في حدها الأدنى، في وقت تتزايد البطالة وعدد الفقراء... حكم كان جل همه مصادرة المؤسسات النقابية ووضعها تحت لوائه حتى لا تشكل مواطن اعتراض في الشارع، حكم نجح حتى الآن في تضامن طاقمه الحكومي بعد أن أدخلهم في الصفقات والمنافع. هذا الحكم، عبر منظومته الأيديولوجية القائمة على التحريض الطائفي وتسعير العنصرية ضد غير اللبناني، والذي فشل حتى الآن في تحقيق أي من وعوده في الإصلاح والتغيير، هذا الحكم لا وسيلة له الآن ومستقبلاً سوى القمع العاري للبنانيين لمنعهم من الاعتراض ولكبت أصوات المنتقدين لممارساته.

من المفارقات اللبنانية العجيبة أن الحكم اللبناني ذاهب الى تكريس وقوننة الاستبداد، فيما العالم العربي يشهد انهياراً لهذه الأنظمة واستحالة استعادتها لطريقة ممارستها في الحكم. ينطبق على الحكم اللبناني ذلك المثل الشعبي: «ذاهبون الى الحج فيما الناس عائدة منه».


* كاتب لبناني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة