الجمعه ٢٦ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
عن الشر الأخلاقي والجهل المعرفي - صلاح سالم
يبدو التصور الأرسطي القديم عن ارتباط السعادة بالفضيلة، والذي هيمن على وعي العالم التقليدي، قولاً مثالياً متقادماً. فالإنسان لا يرتكب الشر بدافع الجهل فقط، وإنما بدافع اللذة وتحت ضغط الشهوة. بل يمكننا الادعاء أن عالمنا الراهن إذ يزداد معرفة يكاد يزداد شراً في الوقت نفسه، فالمعرفة إذ تضيف الى حواس البشر الخمس الأساسية ما يقوي حدتها ويمد في فضاء عملها، إنما تزيد قدرة الإنسان على ممارسة الشر كما على فعل الخير.

ومن ثم، فالشر الفردي في الزمن المعاصر يفوق نظيره في الزمن القديم، فلا قدرة الإنسان على الإيذاء ظلت عند حدها البدائي المعروف، ولا قدرة الجماعات على ممارسة القتل بقيت أسيرة الحد التقليدي. وبينما يمكن الادعاء بأن تكنولوجيا سفك الدماء وتخريب العمران صارت عظيمة، ما يعني قدرة المعرفة على زيادة ضحايا الشر، لا يمكننا الادعاء بأن العالم زادت حكمته في المقابل، ما يعني أن علاقة المعرفة بالقدرة على الإيذاء تبدو مؤكدة، بينما تظل علاقتها بالحكمة احتمالية.

فمجتمعاتنا الحديثة، التي أدركت الأهمية الفائقة لحقوق الإنسان، مثلاً، لم تندفع بالضرورة الى احترام جميع تلك الحقوق في كل الأحوال، فظلت المذابح تفتك ببعض البشر، والناظر الى المأساة السورية وحجم الألم المتولد عنها، قد يشعر بأن المنظومة الحقوقية استحالت عقداً من اللؤلؤ لا يزين سوى أعناق سيدات القصر، أي تلك الأمم الثرية المتقدمة، القادرة أصلاً على الفتك بالآخرىن.

غير أن القول بأن المعرفة لا تزيد حتماً السعادة، يوازيه قول آخر وهو أن السعادة لا ترتبط حتماً بالسذاجة إلا في حدود معينة. فعلاقة السذاجة بالحكمة تبدو معقدة، تشبه علاقة الخير بالشر، فكلاهما يعتمد على الآخر، يقاس به وإليه. ذلك أن السذاجة لا تكون مفيدة إلا بوجود الحكمة. وكما أن الطفل لا يسعد بسذاجته البريئة إلا بوجود كبار يحرسونه من الأخطار، فالجاهل لا يسعد بسذاجته لو أن الأخيرة قد عمت الأرض، لأن العبث والشر يكونان الغالبين، وعندها يفسد نظام العالم بما لا يدع فرصة لسعادة أي شخص فيه. فلا يمكن شخصاً أن يكون سعيداً وسط جزيرة محترقة أو في قلب بركان نشط.

فلا بد إذاً من حكماء يضعون القواعد ويحرسون النظام، كي يتمكن الجهلاء من الاستمتاع به، وهكذا فبعض السذاجة قد تكون محتملة، وبعض السذج قد يكونون سعداء، أما عموم السذاجة فيفضي الى ألم الوجودي وشر كلي.

ولنضرب مثلاً بسائق سيارة تاكسي محدود المعرفة، فهو لا يميل الى احترام قواعد المرور، ولا يسير في الحيز المفترض أن يشغله، ويمضي مستمتعاً بسوء سلوكه، من دون أن يدري أن متعته تلك تأتي على حساب الآخرىن السائرين بجواره، وأن الكثيرين يمكنهم أن يفعلوا مثلما يفعل بالضبط لو أنهم تحرروا من معرفتهم بخطورة ذلك السلوك النشاز. ولو أنهم فعلوا ذلك لاصطدموا به، ولصار الشارع مقتلة كبرى للجميع، وهو أمر يحدث بعضه في شوارعنا الآن.

وثمة أيضاً مثل الشخص الفاسد، سواء اللص الذي يسرق من خزانة مؤسسته مباشرة أو المرتشي الذي يتواطأ على مصالحها مقابل منفعة. مثل هذا الشخص قد يحقق ثراء سريعاً قياساً الى رفاقه المجتهدين في عملهم والحريصين، على رغم كل عذاباتهم، على شرف مهنتهم وأنفسهم. وقد يتصور الشخص الفاسد أن ما يحصل عليه إنما هو نتاج جرأته أو ذكائه، والحقيقة أن هناك من هم أذكى منه، ولو أنهم فعلوا مثلما يفعل لانهارت المؤسسة سريعاً على رأس الجميع، فما استفاد أحد.

وهذا ما يؤكد أن الشر كالجهل لا يكون مفيداً لصاحبه إلا إذا كان استثناء، يعمل في ظل نظام يقوم عموماً على الفضيلة والمعرفة، فإذا ما عم الجهل كان ضاراً بالجميع، وإذا ما ساد الشر تحطم نظام العالم وبناء الوطن وعم الخراب على الكل.

ويبقي القول أخيرا، إن ثمة مكوناً معنوياً في السعادة، لعله الدليل الباقي على علاقتها القديمة بالحكمة والفضيلة. فعلى رغم أن غالبية اللذات ترتبط لدى عموم الناس بالحواس والغرائز من مأكل ومشرب وملبس وسفر، وغيرها من ملذات مادية، تبقى بعض اللذات المعنوية التي لا يدركها كثيرون لكنها تظل عزيزة جداً على من يعرفونها. فالشعور بالكرامة الإنسانية واحترام الذات الداخلية يمثلان غايات عليا لدى البعض تهون معها أية غاية مادية، على نحو يدفعهم الى الحرص عليها ولو ضحوا في سبيلها بالأموال الكثيرة أو السلطة العالية، لأنهم يدركون أن سيادة المعرفة والحكمة تمثل ضرورة لبقاء العالم، الذي لا يُتصور من دون تلك القيم.

ولأنهم يعرفون ذلك، فإنهم يبذلون الجهد في سبيله، بفعل شعورهم العميق بالمسؤولية عن مجتمعاتهم. ففي باطن ذلك الشعور يكاد يتلامس الإحساس العميق بالواجب، مع الإحساس الأعمق بتحقيق الذات.

هؤلاء الناس الذين يرفضون الرشوة، على رغم حاجتهم الى المال، ويرفضون السلطة إذا ارتبطت بالقهر، هم التعبير الأصيل عن الطبيعة المتسامية للإنسان، الذي لا يحقق رسالته ولا يرتقي تاريخه إلا بتأكيدها، ولذا فالويل كل الويل لعالم يخلو منهم أو مجتمع يندر فيه وجودهم.

* كاتب مصري.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة