الجمعه ١٩ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيار ٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
نحن وأوروبا: مراهق وعجوز - عمر قدور
تختار فرنسا اليوم رئيسها الجديد، بعد ظهور المرشحَيْن في مناظرة رئاسية مساء الأربعاء الفائت. صبيحة المناظرة أجمعت الصحف الفرنسية على استحالة الحوار بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبن. «لوموند» وصفته بالحوار الشرس مع نبرة تميل لماكرون، بينما اتخذت «لاكروا» اليمينية المحافظة نبرة محايدة وهي تصفه بـ «سباق الفئران» و «حوار الطرشان»، فيما وصفته الصحيفة اليسارية «ليبراسيون» بالحوار المستحيل أيضاً.

في المناظرة، ظهر جلياً الفارق بين لوبن التي لا تملك إجابة عن مجموع الأسئلة المطروحة اليوم فرنسياً سوى الانغلاق والتشبث بروح قومية مهددة بالاندثار، بينما كان ماكرون (على علاته) صاحب أوروبية واضحة، يمتلك معرفة لا تُسقطه، مثل منافسته، في أخطاء كعدم معرفة أن إنكلترا خارج منطقة اليورو، والتمييز بين عملة مرجعية نظرياً واعتماد نظام من عملتين.

الأهم ربما، هو الفارق في التطلع إلى فرنسا موحدة بمختلف أصولها الإثنية والدينية، وأخرى منقسمة، أو ذاهبة إلى صراع داخلي مرير كما تريد لوبن.

أيضاً، لعلها الانتخابات الفرنسية الأولى التي تحظى بهذا الاهتمام عربياً، بسبب صعود اليمين الشعبوي المتطرف وتسلمه الرئاسة في الولايات المتحدة، وأيضاً لما لفرنسا من تأثير كبير على استقرار الاتحاد الأوروبي، وتالياً السياسة الدولية ودول المنطقة.

وقد يكون جيداً أن تحظى المناظرة بين المرشحين باهتمام عربي مستجد، ففيها ما يستحق التعلم، بخاصة رؤية ما يعنيه اليمين المتطرف ممثلاً بلوبن، إذ لم تقصّر في إظهار ذاك المزيج من السطحية وقلة المعرفة، ووقاحة الطعن بالنظام الديموقراطي وفصل السلطات عندما اتهمت القضاء بالتسييس على خلفية اتهامها بالفساد، فضلاً عن العداء الأعمى للأجانب.

من فضائل هذا الاهتمام معرفة ما هو بديهي من أن الغرب ليس واحداً، وأن الصراعات الداخلية فيه لا تستثنينا من اهتماماتها. قضايا كالإرهاب واللجوء أو الهجرة صارت في صميم السياسات الغربية الداخلية، وقد تبقى كذلك في المدى المنظور.

وإذا كان بلد كفرنسا ليس واحداً، فمن الأولى القول بأن الغرب ككل متباين، مع ضرورة الانتباه إلى ما يعنينا منه أكثر، وهو التباين بين أوروبا والولايات المتحدة، وإن جمعت بينهما شراكة استراتيجية وعسكرية.

الإرث المشترك بين منطقتنا وأوروبا يجعل التقارب أو العداء أكثر «حميمية»، والموقع المشترك في قلب العالم القديم يصعّب محاولات العزل بين الطرفين، من دون جعلها مستحيلة إذا توصل الغرب الأوروبي إلى قناعة تامة بضرورة حماية دوله من الأخطار القادمة من الجنوب. هذا هو الحل الذي لا تريده، ولا تطيقه، حتى الآن الكتلة الأكبر في القارة العجوز، ومن الخطأ الظن أن رفضها ناجم فقط عن الحاجة إلى «دماء شابة» وعمالة رخيصة، لأن الانفتاح على أوروبا الشرقية وتوسيع الاتحاد الأوروبي يحل المشكلة. رفض هذا الانفتاح كان في صميم حملة المحافظين البريطانيين من أجل مغادرة الاتحاد.

الأمر حتى الآن بين منطقتنا والغرب أشبه بالعلاقة بين مراهق وعجوز. مجتمعاتنا المصنفة شابة ليست مصدر هذا التشبيه، بل ما تتمتع به من سمات المراهقة الفكرية، وما تمور به من غضب مبرر أحياناً، وخارج العقلانية في غالبية الأحيان. لا تخرج عن هذا الإطار تلك النظرة الضمنية للغرب بوصفه الأب الكولونيالي لكافة مصائب المنطقة، بما يستجره هذا الفهم من نقمة يتمنى بعض أصحابها وصول اليمين المتطرف إلى الحكم تشفّياً وانتقاماً، أو زيادة في القطيعة النهائية المشتهاة.

وقد لا نجد فارقاً واسعاً بين من يرون الغرب أباً كولونيالياً حديثاً أو أولئك الذين يردّون الثأر إلى الحروب الصليبية، متناسين أسبقيات من نوع السيطرة على الأندلس، أو توسع الإغريق والرومان على ضفتي المتوسط.

مع الأزمات الحالية قد لا يبدو واقعياً القول بالحاجة المتبادلة بين الطرفين، فأوروبا بمعيار التدخل الخارجي ضعيفة ومستضعفة، بخلاف دورها الاستيعابي المستهدف. ومنطقتنا غارقة في مستنقع مزيج من الطغيان والإرهاب والعنف، بينما يتواطأ اللاعبون الأقوياء على تهميش شعوب المنطقة، بالمقدار الذي يتفقون فيه على إقصاء أوروبا مع أنها الأكثر تضرراً مما يحدث.

لا عدل في أن يؤجَّل دور أوروبا إلى مرحلة إعادة الإعمار، وألا يكون لها دور بينما تتحمل عبء موجات اللجوء، وتُستهدف بالإرهاب. وإذا استعرضنا القوى المهيمنة أو الصاعدة شرقاً وغرباً، ولقد لخصها ماكرون في المناظرة عندما تحدث عن التحديات القادمة من الصين وروسيا وبعض السياسات الأميركية، فإن هذه القوى التي تهدد أوروبا تهدد منطقتنا أيضاً.

ثمة حاجة لأن تسترد القارة العجوز شيئاً من صباها، لكن ثمة حاجة ملحة جداً لينضج المراهق ويتحلى بالعقلانية. لم تعد أوروبا تلك القوة الإمبريالية، وقد مضت ستة عقود على آخر تدخل عسكري لها في المنطقة، منذ طوت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي صفحة أوروبا مع تصديهما للعدوان الثلاثي.

صحيح أيضاً أن فرنسا وبريطانيا بمثابة أبوين لدول المنطقة الحالية، مع كل السلبيات التي رافقت رسم الحدود بينها، إلا أن تلك الأبوة بما يترتب عليها من مسؤوليات تعود إلى زمن مضى، وآن للأبناء التصالح مع ذلك الجرح.

السيء في الأمر أن الوحيد الذي تحمس لشراكة أوروبية متوسطية كان الرئيس الفرنسي (الأسبق) نيكولا ساركوزي، وحاول إقناع العديد من دول المنطقة بتبنيها إثر إطلاق نداء ما يُعرف بنداء روما نهاية 2007. وقتها، تم التشكيك بأهداف التكتل تحت ذرائع مختلفة. تركيا رأت فيه تنصلاً من منحها عضوية الاتحاد الأوروبي، في حين تراوحت التحفظات الأخرى بين اعتباره مدخلاً خبيثاً للتطبيع مع إسرائيل واعتباره مشروع هيمنة أوروبياً جديداً، لكن لا يخفى في نسبة كبيرة منه ذلك التهرب من استحقاقات الشراكة مع القيم الأوروبية وفي مقدمها الديموقراطية.

هجاء أوروبا (المستفحل في أدبيات القوميين والإسلاميين) وطلب حمايتها في الوقت ذاته يشيران إلى ذرائعية التحلل من المسؤولية، وما لم يتم التطبيع الفكري مع تاريخ من الصراع (بمجمل نتائجه) سيصعب تحمل قسطنا من المسؤولية عن الإرهاب، وعن تأجيج صراع حضاري مؤذٍ للجانبين. أكثر من ذلك، ما لم نكن قادرين على التطبيع مع «عدونا القريب الحميم» يصعب تصور قدرتنا على الانفتاح على عالم هو أكثر اختلافاً.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة