Deprecated: Optional parameter $Href declared before required parameter $Img is implicitly treated as a required parameter in /home/ademocr/public_html/Arabic/include/utility.inc.php on line 254
الشبكة العربية : عن طغيان المال في الشأن العام - محمد الحدّاد
الخميس ٢٨ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
عن طغيان المال في الشأن العام - محمد الحدّاد
ثمة مرحلتان في طرح المشاكل الإنسانية: المرحلة الأولى تقوم على إثبات الطابع غير الأخلاقي لمشكلة ما، ومحاولة التأثير في الحسّ الأخلاقي المشترك للتجنّد لحلّها والسعي للتخفيف بما أمكن من حدتها وتبعاتها. والمرحلة الثانية تقوم على إثبات أنّ تواصل المشكلة سيصبح وبالاً على الجميع وينسف منظومة العيش المشترك، بما يجعل السعي لحلها إنقاذاً للذات قبل أن يكون عملاً أخلاقياً من أجل الغير.

مشكلة طغيان المال في الحياة العامة، والسياسة بخاصة، تجاوزت اليوم مرحلة الطرح الأخلاقي لتصبح مشكلة تهدّد البشر بامة. شيء ما في الوضع العالمي الحالي يذكّر بالسنوات السود التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية، كأنّ الذاكرة البشرية قد طال بها العهد ففقدت مناعة اكتسبتها بمناسبة تلك الكارثة البشرية. فهي تتقدّم اليوم بخطى حثيثة نحو كارثة من الصنف ذاته، وإن تجسدت في شكل أقلّ شمولية وأكثر طولاً.

ننظر باتجاه الولايات المتحدة فنرى كيف انقلب نظامها السياسي رأساً على عقب. لطالما افتخر الأميركيون بنظامهم واعتبروه حائلاً دون الفساد المالي، باعتبار الموارد المالية في الولايات المتحدة موارد خاصة لا حكومية، فلا يمارس الناس السياسة للسيطرة عليها ولا حتّى لتحقيق الفوائد المالية. لكن مع ترامب، اتضح أنّ المضي بهذا النظام إلى حدّه الأقصى يؤدّي إلى نتيجة أخرى لا تقلّ خطراً: فلئن لم يسمح هذا النظام للحاكم بأن يصبح غنياً لأنه أصبح حاكماً، فإنه يسمح لغنيّ بأن يصبح حاكماً، وأن يشتري الترشح للحكم، ويصبح بأمواله رئيس أكبر دولة، ومنها يتحكّم في مصير العالم كله.

ثم ننظر باتجاه فرنسا، الديموقراطية الأخرى التي سلكت تاريخياً الاتجاه العكسي، إذ قامت على مبدأ تحصين الممارسة السياسية بربطها بالتمويلات العامة التي تقدّم للأحزاب والفوائد المالية التي يجنيها السياسيون من تبوّؤ كلّ أصناف المناصب، كي لا تخضع الدولة لتأثير رؤوس الأموال من الداخل والخارج ولا يخترق النظام مغامرون من خارج الطبقة السياسية المعترف بها. لكن انتخابات الرئاسة الفرنسية التي ستبوح بأسراها بعد ثلاثة أسابيع قلبت الوضع جذرياً هذه المرة وهي تنبئ بنتيجة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، بما أنّ الاثنين الأولين في استطلاعات الرأي العام هما من خارج الطبقة السياسية الرسمية: أحدهما يمثّل- تمثّل أقصى اليمين، والثاني هو النجم البارز للانتخابات والأكثر حظّاً للانتصار في دورتها الثانية، وهو مدير سابق في مصرف «روتشيلد» لا ينتمي إلى أي حزب.

ثم ننظر باتجاه روسيا، فنرى نموذجاً في الحكم غير معهود في كتب العلوم السياسية، لا يمكن القول إنه حكم استبدادي على شاكلة الحكم الشيوعي سابقاً، بما أنّه ينظم انتخابات دورية سليمة نسبياً من ناحية الشكل، ويترك هوامش للحريات السياسية والتعددية الحزبية، ولا يمكن القول أيضاً إنه حكم ديموقراطي، بما أنه يحتكر التحكم في الثروات للعامة التي هي أساساً ثروات ريعية، وبفضل هذا الاحتكار يتحكّم في كلّ مسارات السياسة والمجتمع. وهو اليوم نمط في الحكم يغري بلداناً كثيرة تبحث عن زعيم قوي في عالم مضطرب وعنيف ومخيف، ولا تخفي استعدادها للتضحية بجزء من حريتها من أجل الحماية والاستقرار. وستتعدّد النماذج البوتينية في العالم وتتكاثر طالما واصل العالم طريقه في العودة إلى قانون الغاب.

ثم ننظر باتجاه بعض البلدان العربية التي حاولت أن تخوض تجربة ديموقراطية، مثل العراق بعد الاحتلال أو تونس بعد الثورة، فنرى أنها سرعان ما تجد نفسها أمام استقطاب مدمّر: التعصب الديني أو الفساد المالي، لا مهرب من هذا إلّا ذاك. والنتيجة أن يؤدّي الفساد المالي إلى نقمة شرائح من الشعب تتجه إلى التطرف للتعبير عن سخطها، فيؤدي انتشار التطرف إلى نشر الخوف في النفوس وقبول ضريبة الفساد لمحاربة التطرف، لكن انتشار الفساد ينمّي التطرف، وهكذا دواليك، يتواصل الدور من دون نهاية.

أخيراً، ننظر في حياتنا اليومية فنرى أننا مهددون بطرق في الزراعة يشتبه بأنها مضرة بالصحة، وأدوية تحوم حولها الشبهات والفضائح، ومناخ يقال إنه ينشر السرطان والأمراض القبيحة، وتلوث يبدو أنه تجاوز الحدّ الذي يمكن للجسد البشري أن يتحمله، ووسائل تكنولوجية لم نعد قادرين على وقاية أطفالنا من أخطارها، الخ... كلّ ذلك لأنّ منطق الربح السريع قد أصبح القاعدة، ولا تقابله سلطات مضادّة قادرة على توفير المعلومة الصحيحة والتدخل الناجع للتعديل والوقاية.

مشكلة طغــــيان المال لم تعد مشكلة أخلاقية، لقد أصبحت تـــهديداً لإنسانية الإنسان ووجوده، ولا يمكن التصدّي لها إلا بمـراجعة الأنظمـــة السياسية وعلاقاتها بالمال. فسواء اشترى ثـــري الدولة أو استحوذ سياسي على المال العام أو تنـازعته الطــوائف والقبائل والأحزاب أو تسترت اللوبيات وراء القوانين الشكلية لتحقيق أرباحها، فإن المشكلة في جذورها واحدة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة