السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
ما بعد الحداثة... ما بعد الحقيقة - صلاح سالم
بوصفهما وريثين معاصرين للنزعة التفكيكية الفرنسية، يــــتحـــدث الفــيلـــســـوفان، الأميركي جون دو كابوتو، والإيطإلي جياني دي فاتيمو، عما يسميانه «الفكر الخافت» كطريق أمثل لفهم الحقيقة، وتحقيق التصالح بين الحقائق المختلفة، بين الأديان المتعددة، أو بين الدين عموماً والعلمانية، ومن ثم التعايش الإنساني. والفكر الخافت، كما يفهمانه أو كما فهمته شخصياً منهما، يعني إدارة الحوار بين المختلفين من طريق مفهوم السلب، أي التعبير عن قضية ما من طريق نفي نقائضها أكثر مما من طريق تأكيدها هي. بمعنى أن تقول، على سبيل المثال: التركيز على عدم النقص عند الله بدل التركيز على الكمال. بالطبع، يبقى ذلك نموذجاً تبســـيطياً، لـكنه يظل معبراً عن طابع شكي في مفهوم الحقيقة ككل، يستبطن فهماً جوهرياً يقول: «حتى لا تتصادم الحقائق لا يجب أن تكون هناك حقيقة من الأصل».

ينطلق هذا الفهم من نزعة نسبية فائقة تسم فكر ما بعد الحداثة الذي يندرج الرجلان في سياقه، ويقدمان اجتهاداتهما من خلال تنويعاته. والنسبية الفائقة هنا تعني نزعة نسباوية، ترفض كل حقيقة لها قدر من الثبوت، على نحو يتحول معه العالم إلى فسيفساء من المعاني التي لا مركز لها. فوفق تلك النزعة تنبع تصوراتنا عن العالم والواقع من أذهاننا نحن، لا من أي حقيقة خارجية، وهو ما يقود على صعيد نظرية المعرفة إلى صعوبة بناء منظور - نموذج إرشادي مستقر أو مجتمع علمي متماسك، ويعيد إنتاج «المثالية الذاتية» كنظرية معرفة كان مسار العلم قد تجاوزها منذ كانط قبل أكثر من قرنين، بتدشين النظرية النقدية أو ما يسمى «المثالية التجريبية». أما الخطورة الأساسية لـ «الفكر الخافت» فتتبدى على صعيد نظرية الأخلاق، إذ تنفي النزعة النسباوية مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، فلا الفضيلة ذات معنى إنساني عام، ولا القيم ذات مغزى كوني شامل، بل جميعها وليدة سياقات محلية وخبرات جزئية، لذا فالمعيار الأساسي للفضيلة هو ما تتواضع عليه أي جماعة بشرية أو مجموعة متفاعلين، وهنا يكاد يستحيل كل إنسان مشرعاً أخلاقياً لنفسه حتى لو اصطبغ وعيه بأكثر النزعات عبثية أو حتى عدمية، فبأي مقياس يمكن أن تشف له عن عبثيته أو تواجهه بعدميته.

في عالم اليوم، حيث الأفكار مشاع عبر وسائط تداول لا نهائية القدرة والطاقة، متنامية الحيز والنطاق، من دون مراكز محددة لإنتاجها أو بلورتها أو وسائل فعالة لترشيدها إن لم تكن مراقبتها، سوى ضمير الفاعل الاتصالي أو فضيلته الذاتية، بات صعباً أن نفصل مفهوم الحقيقة - نظرية المعرفة عن مفهوم الفضيلة - نظرية الأخلاق، حيث يختلط المجالان التداوليان ليصبغا عالم السياسة بصبغتيهما، ويحلانه إلى تلك الفسيفساء التي نراها اليوم، فلم تعد الأفكار تقاس بعمقها بل بمساحتها، أي حاصل ضرب طولها بعرضها، وصار العالم السياسي، الذي يدور حول طلب السلطة والتنافس عليها، قائماً لا على أساس خطابات أيديولوجية متصارعة على نحو ما كان الأمر في ظل الحداثة السياسية، بل على مجرد القدرة على الإغواء والإيهام والمراوغة والتحايل، في مواجهة جمهور اتصالي لم يعد قادراً على طلب الحقيقة بأي معنى، بل صار باحثاً عن تحقيق رغبات قد تكون غريزية أحياناً في قضايا كالإرهاب أو الهجرة وغيرها من قضايا معقدة وعصية يطلب لها حلولاً بسيطة وسريعة. وهنا تنمو النزعات الشعبوية، واللاعقلانية الحديثة، كما تنبت زعامات وهمية لتلبي الطلب عليها من نسيج المجتمعات المختلفة، فتكون طائفية هنا ونازية هناك وشعبوية في كل الأحوال.

في هذا السياق، يمكن الادعاء بأن ما يعيشه عالمنا السياسي اليوم من نزعات شعبوية، وممارسات تمت بصلة إلى ما بعد الحقيقة ليس إلا نتاجاً لأربعة عقود من مغامرة التفكيك على الصعيد الفكري، والتي مثلت قفزة في فراغ ثقافي، كان يتمدد منذ السبعينات، ولكن التكنولوجيا الحديثة، خصوصاً المعلوماتية، وفرت له تدريجاً كل الأسباب التي فجرت نزعاته العبثية، وهي نزعات ستبقى مستمرة وربما متزايدة طالما استمرت أليات إنتاجها قائمة. وهكذا لا تعدو مقولات الفكر الخافت الرائجة في فكر هذا القرن، أن تكون وصفة تعمى عن مشكلة الحقيقة من دون قدرة على حلها، إذ تقود إلى اضطراب في مفهومها بدل تنقيته من شوائب التسلط والأحادية والقهر، فيما المطلوب وعي جديد يحفظ للحقيقة ممكنات حضورها كاملة، ويتجاوز في الوقت ذاته وثوقيتها الساذجة التي تعوق تعددية الطرائق التي يمكن النظر إليها من خلالها، حيث يبقى التعايش الإنساني ممكناً عبر تنشيط النزعة النسبية، كمفهوم حداثي، يؤكد تعددية تصوراتها، ولكن مع بقائها قائمة ومركزية ومستقلة بذاتها، وهو الفهم الذي لا يزال يدافع عنه باستماتة الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، كوريث شرعي لمدرسة فرانكفورت النقدية، حيث يمكن العقل التواصلي قبول الاختلاف من دون تفكيك للحقيقة، بل عبر توكيدها والتعاطف معها.

نحتاج إذاً، إلى إعادة بناء مشروع التنوير في ذروته الكانطية التي ربطت بين مفهوم الحقيقة العلمية ومفهوم الواجب الأخلاقي، مثلما ربطت بين الديموقراطية الليبرالية في المجتمعات المحلية والسلم العالمي الدائم، وهو طريق طويل ومضن بقدر ما أن السير عليه يظل ضرورياً وممكناً. ولكن، هل يعني ذلك مطالبة الفكر البشري أن يعود القهقرى نحو القرنين حتى يستقيم أمر عالمنا أو مستقبلنا؟ ظني الشخصي أن في مستودع الخبرة البشرية ما يمكن العودة إليه دائماً، وإلا فما معنى التاريخ أو قيمته، شرط أن لا تكون العودة إلى جسد مادي يتمثل في هياكل قديمة متآكلة، بل إلى الروح الخلاقة، والقيم الإيجابية الحافزة، القادرة على أن تلهمنا دوماً، حيث يبقى مشروع التنوير الكانطي معلماً بارزاً ونقطة متقدمة، تتوجب علينا إعادة تمثله وإن في أشكال تنظيم وممارسة مغايرة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة