الثلثاء ٧ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ٢٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الحرية هي الحرية والاستبداد هو الاستبداد - صلاح سالم
تجتهد الدولة المصرية في محاربة الاستبداد/الإرهاب الديني قدر الطاقة، وهو جهد مشكور لها، غير أنها لا تمارس الحرب هذه باسم الحرية وإنما باسم استبداد آخر، ربما جازت تسميته بالعلماني، يصب في قناتها هي، وتلك مفارقة تاريخية تنطوي على تناقض بيّن، إذ يبدو إصلاح الدين ضرورياً وعاجلاً فيما إصلاح السياسة مسكوت عنه دوماً، أو على الأقل مؤجل. والحقيقة أن الإصلاح السياسي هو المطلب الأكثر إلحاحاً والشرط الأكثر ضرورة وربما منطقية لإنجاز الإصلاح الديني، فلن تحقق الدولة المصرية نجاحاً يذكر في مجابهة التطرف أو الإرهاب إلا إذا دفعت ثمناً لهذا النجاح من سلطويتها هي، يتمثل في كبح جماح التغول على المجتمع، والسماح بنمو مراكز قوته الفكرية والأخلاقية خارج أسوارها، لتتحول من مركز تقييد لحركته إلى بؤرة إلهام لمسيرته.

فمع نجاحها في إصلاح السياسة، تكون قد وضعت نفسها على طريق إصلاح التدين، لأن الشخص المتحرر من قمع السلطة، القادر على المشاركة في تقرير مصيره، سيكتسب بالضرورة قدرة متزايدة على إعمال عقله بما لن يسمح له بعد ذلك بالخضوع لسلطة فقهاء تقليديين يكادون أن يعبدوا السلف وتراثهم، ناهيك عن متطرفين دينيين يكادون أن يفتكوا بالنص ويدمروا واقعهم، فهو شخص ودع بالفعل طفولته العقلية، وانطلق خارجاً من كهف الوعي المغلق إلى الآفاق الرحبة للفكر الإنساني.

والحق أن مصر كانت قد خاضت المعركة نفسها مرتين على الأقل في الثمانينات والتسعينات، وتمكنت بعد جهد جهيد من مقارعته، ولكن ها هو يعود في موجة جديدة وكأننا على موعد معه كل عقد، يدق أبوابنا ويطرح علينا تحدياته، فنستجيب له باستنفار جهودنا، التي تُستهلك عادة في الدفاع عن وجودنا وليس في تطويره نحو الأفضل. كما كانت قد واجهت تحديات الإصلاح الاقتصادي في العقدين نفسيهما، واضطرت في المرتين إلى مجاراة سياسات التقشف التي ينتهجها صندوق النقد الدولي حتى نجحت في تفكيك أزمتها المالية الخانقة، لكنها لم تنجح قط في إنجاز إصلاح اقتصادي بنيوي، يغير هياكل الإنتاج والاستهلاك ويرفع معدلات التنمية. هكذا عادت الأزمة من جديد تطل برأسها، على نحو أشد وطأة عن سابقاتها.

في الحالين نحن أمام منهج واحد، فما أن نرد الموجة الإرهابية حتى نعود لنسلك كل الطرق التي أفضت بنا إليها، وما إن نتجاوز عتبة الأزمة المالية حتى نعود للسير في شتى الدروب التي قادتنا إليها. في الأولى تغيب الحرية لمصلحة القمع والاستبداد، وفي الثانية تغيب الرشادة لمصلحة الفهلوة والفساد، فلا العقلانية بكل تجلياتها المعرفية والسياسية عادت لتدير دولاب حياتنا، ولا الحرية التي نحلم بها اقتربت من واقعنا.

نعم، هزمنا الإرهاب مراراً، لكنه عاد إلينا تكراراً، أشد ضراوة وأكثر شراسة، لأنه يطور نفسه ويجدد أدواته، فيما لا نضيف نحن جديداً. خضنا معاركنا مع جماعة الإخوان منذ الأربعينات، ومع الإرهاب العنيف منذ السبعينات، لمصلحة مشاريع سياسية اختلفت مشاربها بين ملكية أو جمهورية، سبقت 23 تموز (يوليو) أو لحقته، تلت 25 كانون الثاني (يناير) أو 30 حزيران (يونيو)، لكنها جميعها تأسست على قاعدة الاستبداد، فدافعت عن نظام حكم بذاته باسم وطن مفترض، وليس باسم دولة عريقة تستحق الحرية، ومواطن حقيقي يستحق ما يصون كرامته الإنسانية. ولذا عدنا دوماً إلى نقطة الصفر، وسنعود مراراً، طالما لم تتغير الوسائل وترتقِ الأهداف وتسمُ الغايات.

يتصور البعض أن الاستبداد العلماني أفضل من الاستبداد الديني، فيبذل قصارى جهده في محاربة الأول ومهادنة الثاني، وليس هذا صحيحاً على الإطلاق، فاستعباد الناس باسم حاكم فرعون أو مؤسسة أمنية باطشة ليس أقل ضرراً من استعبادهم باسم الله أو مؤسسة كهنوتية مهيمنة، كما أن تعذيب مواطن في قسم شرطة وإن لم يفض إلى الموت، لا يقل قبحاً عن اغتيال الإرهاب له. فإهدار كرامة البشر وقتلهم معنوياً بيد الاستبداد هما المدخل لقتلهم جسدياً بيد الإرهاب. ناهيك بأن كليهما يفضي إلى الآخر. فالاستبداد الديني إذ يقمع الضمير يفضي إلى موته، والاستبداد السياسي إذ يعطل الإرادة يفضي إلى قتلها، وليس الضمير والإرادة إلا مظهرين للروح الإنسانية، التي تؤمن وتبدع بإشعاع الحرية، كما تنافق وتقلد تحت ضغط بالقهر. يندفع هذا البعض إلى المطالبة بإزالة الضوابط المنظمة لحق الإنسان في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي، واستسهال الدفع بفئات تلو أخرى أمام القضاء العسكري، حتى لو تطلب ذلك تعديل الدستور، غير مدركين أن ذلك التعديل يفتح باب الجحيم، إذ ينزع كل صدقية عن البرلمان ونظام الحكم، ويبرر كل إرهاب قادم، حيث الخروج السياسي على الشرعية الدستورية يبرر الخروج الجهادي على الشرعية السياسية. وقد بلغ حمق بعض هؤلاء حده الأقصى في دعوة الحكومة إلى القصاص من الإرهابيين، بقتلهم بدلاً من إنفاق الأموال على مأكلهم ومحبسهم في انتظار محاكمتهم، فلو حدث ذلك لهم لتحولنا جميعاً إلى إرهابيين مثلهم، وفقدنا تفوقنا الأخلاقي عليهم والذي يبرر لنا نقد مسلكهم، أياً كانت مبرراتنا، طالما صرنا جميعاً خارج إطار الشرعية الدستورية والمشروعية القانونية.

فليتوقف المنافقون إذاً عن رقصتهم الشيطانية على جثة الحرية التي لا تنهض إلا بالانخلاع من ربقة السلطان ووصاية الكهان، حيث يبقى الدين لله وتصير الحرية للإنسان.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة