الأربعاء ٢٤ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ٢٥, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
لن أتحدث عن ليبيا... - محمد الحدّاد
لن أتحدث عن ليبيا، فهذا بلد انتهى مرة أولى عندما حكمه العقيد القذافي، ومرة ثانية عندما تدخل فيه الغربيون تدخلاً مصلحياً غير مدروس العواقب، ومرة ثالثة عندما أسقط الإسلاميون تجربة الانتقال الديموقراطي بفرض قانون العزل السياسي ثم رفض الاحتكام الى المسار الانتخابي.

سأتحدث عن الليبيين، هؤلاء الناس الطيبين الذين لا يتجاوز عددهم الإجمالي ستة ملايين نسمة، يملكون مدخرات من النفط والغاز يكفي أن يقسم ريعها بينهم كي يتمكنوا من العيش الهانئ عقوداً طويلة. هذا فضلاً عن إمكانات أخرى يمكن استغلالها في البلد، على غرار تحويلها إلى وجهة سياحية متميزة في البحر الأبيض المتوسط، بفضل ساحلها الممتد على أكثر من 1700 كلم، يمكن أن تهيّأ فيه أجمل الشواطئ بحكم أنه لم يستغلّ حتّى الآن، وأنه قريب من أوروبا.

لكنّ مليونين من الليبيين يعيشون حالياً تحت خطّ الفقر، ومليونين آخرين يعيشون خارج ليبيا. والإقليم الليبي مقسّم بين الشرق والغرب، وحكومة طبرق وحكومة طرابلس، وكل منهما مقسم بدوره إلى مجموعات متنافرة لا تكاد تحصى، والجامع بينها جميعاً الخضوع لحكم المجموعات المسلحة العاجزة عن توفير الحدّ الأدنى من ضرورات العيش الكريم للناس. فهي ككل الميليشيات أكثر قدرة على إطلاق النار من إطلاق برامج بسيطة لتوفير الخبز والدواء.

الليبيون شعب لا يذهب أطفاله آمنين إلى المدارس، أو لا يذهبون إلى المدارس أصلاً، ولا تخرج فيه النساء آمنات في الشوارع، مع أنّ غالبيتهنّ لم تعد تخرج أصلاً. وليبيا اليوم، أكبر معقل للسجون السرية في العالم، حيث يقبع رجال ونساء منذ سنوات من دون محاكمة، وحيث يمارس القتل والتعذيب والاغتصاب من دون رادع.

البلد الذي ما زال عضواً في منظمة البلدان المصدرة للنفط، شهد قيام نشاط اقتصادي كان اختفى في العالم منذ اختفاء القرصنة، وهو خطف الرهائن ثم تحريرها لقاء مقابل مالي، وآلاف من الناس أصبحوا يتعاطون هذه القرصنة الحديثة للارتزاق. أما النفط الليبي، فلم يعد يستخرج منه رسمياً إلاّ ما يعادل العشر بالمقارنة مع ما قبل 2011، ولا يعلم أحد كيف توزّع مداخيله، وتستخرج منه كميات أخرى غير معلنة تباع في السوق السوداء لتمويل الميليشيات والحوانيت السياسية، بما يديم الأزمة ويطيلها إلى غير نهاية.

لم يعد وارداً اليوم، أن يعيش الليبيون في تناغم بسبب ما تراكم من الأحقاد من الماضي ثم من عهد الانهيار الذي سمي بالثورة، ولن يكون ممكناً أيضاً تقسيم ليبيا تقسيماً حدودياً واضحاً لدولتين أو ثلاث، بسبب التنوّع والاختلاط في الآن ذاته، سواء طرح هذا التقسيم في شكل فيديرالية أو في شكل دول مستقلة.

حكومة فايز السراج ربما بدت أملاً بالنسبة الى المتابعين للشأن الليبي من الخارج، أما غالبية الليبيين في الداخل فكانت إليها أقرب إلى الشبح، وإلاّ فمن أين ستستمدّ القدرة على مواجهة هذه الأوضاع المنهارة؟ وما هي الشرعية التي ستحتمي بها داخلياً لاحتكار السلاح والتحكم في موارد الثروة؟

ومنذ أيام، حاولت مجموعة إسلامية اقتحام مقرّ المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، بما يمثل مؤشراً إلى هشاشة وضع حكومة الوفاق ويذكّر بوقائع معروفة من الماضي. وتكفي متابعة كتابات الكثير من المجموعات النافذة في طرابلس ووسائل تواصلها الاجتماعي وفـــتاوى شيـــوخها المزعومـــين للتأكد من أنها لم تقبل أبداً بالسراج وحكومته، وأنه لا يمثل بالنسبة إليها إلاّ «عميلاً موالياً للغرب الكافر»، لكنها انخرطت في المـــسرحية تحـــسباً من عواقب دولية قد تلحقها، أو تحالف محتمل بين السراج وحفتر. ذلك أن الحكومة «المعترف بها دولياً» لم تنجح حتى الآن في انتزاع اعترافات واضحة بها من الفاعلين الكبار في البلد، ولم تنجح في إنقاذ الليبيين.

إنّ الذين ظنوا أنهم سيطبقون في ليبيا «الوصفة التونسية» للتعايش بين «الإسلاميين والعلمانيين»، وفق دليل الطبخ المعدّ في مخابر الأفكار العالمية، فاتهم أن الوضع غير الوضع، وأن التقابل في ليبيا ليس بين أيديولوجيتين، وأن لنجاح الوفاق في تونس أسباباً تاريخية قديمة، وكان وفاقاً بين مكونات سياسية حديثة ولو كانت إسلامية المظهر في بعضها. فالدين لم يكن إلاّ مطية للسلطة، ثم قبلَ رافعو لوائه بقواعد اللعبة بعد أن أصبحوا جزءاً من السلطة، وليس الوضع في ليبيا على هذا المنوال ولن يكون.

إنقاذ الليبيين لن يحصل اليوم من الليبيين أنفسهم، وكل من يتغنّى بهذا الشعار الجميل ويدغدغ المشاعر بالكلام الطيب إنما يسعى في الحقيقة إلى إطالة الأزمة وتعميق المعاناة. وكوارث البعض عند البعض فوائد. وفي ليبيا اليوم مستفيدون كثر، من أمراء الحرب وشيوخ الفتنة وسماسرة الدماء والدمار، وعصابات أجنبية تنهب البلاد طولاً وعرضاً.

وإنقاذ ليبيا لن يحصل اليوم بمجرد التخلص من «داعش» في سرت، لأن هذه المشكلة ترهق أوروبا أكثر مما ترهق الليبيين، و»داعش» عصابة متنقلة، تطرد من مكان لتحلّ في مكان آخر. وبعد «داعش» ستعود «القاعدة» التي تتركز اليوم في جنوب ليبيا والبلدان الأفريقية المجاورة، حيث ستقود من هناك أفغانستان الأفريقية التي ستمتدّ إلى النيجر ومالي.

لا يبقى إلاّ المسار الدولي، على ما شهده حتى الآن من تعثرات متعمدة وغير متعمدة، ولن يستعيد هذا المسار فاعليته إلاّ بتعديل مخرجاته، والضغط الجادّ لتنفيذها بعد التعديل، والتخلّص من وهم الحكومة التي تستمدّ كل شرعيتها من اعتراف الغرب بها، وقبول المفاوضة من أجل تحصيل هذا الاعتراف بين القوى الأساسية، وتطويق الفساد المالي الذي يستفيد منه الأفراد - اللوبيات ويتضرر منه الشعب المغلوب على أمره.

ليبيا اليوم قضية بشر لا قضية دولة، وقضية إنسانية لا قضية سياسية. بيد أن تواصل انهيار الأوضاع هناك سيزيد أفغانستان الأفريقية توسعاً وامتداداً، فتصبح غولاً يستحيل تطويقه، وينقل الكارثة من الليبيين إلى ضحايا آخرين كثيرين، ومنهم من لا يتوقّع بعد أنه سيكون بينهم.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
سيف الإسلام القذافي يخطط للترشح لرئاسة ليبيا
اشتباكات غرب طرابلس... وحكومة «الوحدة» تلتزم الصمت
رئيس مفوضية الانتخابات الليبية: الخلافات قد تؤخر الاقتراع
خلافات برلمانية تسبق جلسة «النواب» الليبي لتمرير الميزانية
جدل ليبي حول صلاحيات الرئيس القادم وطريقة انتخابه
مقالات ذات صلة
دبيبة يواصل مشاورات تشكيل الحكومة الليبية الجديدة
كيف تتحول الإشاعات السياسية إلى «أسلحة موازية» في حرب ليبيا؟
لقاء مع غسان سلامة - سمير عطا الله
المسارات الجديدة للإرهاب في ليبيا - منير أديب
ليبيا من حالة الأزمة إلى حالة الحرب - محمد بدر الدين زايد
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة