السبت ١٨ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ١٣, ٢٠١٦
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الطبقة الوسطى الحزينة في مصر - طارق حسن
لو سألتني عن الطبقة الأكثر سخطاً في مصر حالياً، لقلتُ لك على الفور شرائح وفئات الطبقة الوسطى. الطبقة الأوسع والأعرض والأكبر في المجتمع.

ولو سألتني عن طبقة المستقبل ودونها لا مستقبل في مصر أو لمصر لقلت لك على الفور: لا غيرها. إنها الطبقة الوسطى بكل مكوناتها الاجتماعية.
كيف تكون الأكثر سخطاً، وكيف تكون مفتاح وقاعدة النهوض والمستقبل المصري؟

طبيعي أن يسود السخط عموم الطبقة الوسطى. حالها العام يُغني عن أي سؤال. غائبة تماماً أو مغيبة عن مركز الاهتمام العام. الخطاب السياسي السائد يتحدث عن "محدودي الدخل"، دون تحديد موقعهم الاجتماعي بالضبط، مع شكوى مزمنة من عدم القدرة على الوصول إليهم. بينما الخطاب الإعلامى الرائج يركز على النفور والتشكيك في فئة وشخوص الأغنياء وأصحاب الثروات.

أين الطبقة المُتوسطة؟
لا وجود لها وسط ثنائية "محدودي الدخل" و"الأغنياء"، فكيف لا تكون هي مركز الاهتمام ومحور قول وفعل الخطاب السياسي والاجتماعي، وهي الطبقة التى تصرف أغلب شرائحها على نفسها بنفسها، الطبقة التي تتعلم بفلوسها وتُعالج بفلوسها.

الطبقة التي قد لا يستخدم أغلبها وسائل المواصلات العامة إلا نادراً، الطبقة التي قد تحسب مظهرَ بعضها من الأغنياء لكنهم في الواقع من المستورين بحمد الله والتعفف.
الطبقة التي لو طرأ لديها التزام كبير وضروري تأخذ قرضاً من بنك أو تشترك في "جمعية" مضبوطة على موعد الوفاء بالالتزام.

الطبقة التي لو أصيب فرد منها، لا قدر الله، بمرض خطير، لباعت كل ما تملك من أجل علاجه.
الطبقة التي تسدد أقساطاً بفوائد وقروض من البنوك. عليها "فيزا" تسددها أضعافاً. ليس لديها بطاقة تموين، ولا تأكل "العيش" (الخبز) المدعم، وتخصم الحكومة من بعض أقسامها ضرائبها من المنبع.

باختصار هي الطبقة التي تقوم بدور الدولة لنفسها وبنفسها. وهي أخيراً وليس آخراً، الطبقة التي تقع فوق رأسها كل الإجراءات الاقتصادية والضغوط والأحمال السياسية والاجتماعية وتعاني الصعاب العضال فى العيش والحياة منذ "يناير" 2011 وحتى الآن.

الحق يقال إن الطبقة الوسطى صارت بطلةَ رفع الأثقال الأولى في مصر بلا منازع، كما أنها الطبقة التي تتم معاملة أوضاعها، ويا للأسف، بما لا يجب، إن لم نقل بتجاهل.

الطبقة الوسطى هي المشكلة والحل، هي مفجرة الثورات والقلاقل والاضطرابات، وهي أيضا مفتاح وعماد النهوض والحداثة والتطور، في العالم كما عندنا. وخذ ما عندنا:

- منذ أواخر عشرينات القرن الماضي والطبقة الوسطى محور ومرتكز الحركة الوطنية المصرية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. على أكتافها بنى المصريون دولتهم تحت الاحتلال البريطاني، فجاء الاستقلال الوطني.

- منذ الخمسينات نجح عبد الناصر بالطبقة الوسطى. عرف كيف يقيم شريحة قوية من الفئات الوسطى ذات هوية واضحة.

- منذ السبعينات، ومع تطبيق إجراءات السوق، اتسعت قواعد الطبقة الوسطى وبدأت طريق القدرة والنمو والأعمال الخاصة.

- بحلول عام 2008، ذكر تقرير GiNi، وهو المؤشر الرئيسي المتفق على اعتماده دولياً لبيان مدى عدالة توزيع الثروة في كل دول العالم، أن كل أغنى 10 في المئة من الأسر المصرية تحصل على ثمانية أضعاف دخل أفقر 10 في المئة. وبالمقارنة مع أميركا آنذاك، ذكر التقرير نفسه أن أغنى 10 في المئة من الأسر الأميركية نصيبها 15 ضعفاً من دخل أفقر 10 في المئة من الأسر، وأن الأفضل على مستوى العالم هي اليابان، بنسبة 4 أضعاف، والأسوأ بوليفيا بنسبة 157 ضعفاً.

يعني هذا أن الطبقتين المتوسطة والعليا فى مصر ربما تشملان أكثر من 70 في المئة‏ من الأسر المصرية، وأنهما بلغتا في حينه قدرات أكبر وأعمق مما يظنه كثيرون، لدرجة أن بعض خبراء أسواق السيارات اعتبروا أن القوة الشرائية العادلة في مصر يمكن أن تستوعب أكثر من 50 ألف سيارة شهرياً إذا تم طرحها بأسعار دول الجوار العربي وبمعدل نمو يصل إلى 15 في المئة‏ سنوياً وإمكان بيع مليون سيارة سنوياً بحلول عام 2021.

- في "يناير" 2011، انفجرت تطلعات الطبقة الوسطى السياسية والاجتماعية في مصر. أرادت تحقيق طموحاتها الخاصة في بلد حديث، بتنظيم حديث غير بيروقراطي متحكم. كانت مقولتها البسيطة: نريد مصر كما البلاد المعتبرة، نريد أن نعيش كما يعيش العالم المتحضر. جرت "يناير" كانفجار اجتماعي. لم تكن حراكاً سياسياً يمتلك العقل والقدرة والتنظيم والهوية الواضحة. هنا كانت مأساة الطبقة الوسطى وقصة متاعبها وخسائرها ذات الوجوه والأبعاد المتعددة. صارت الطبقة الحزينة.

- الآن صارت الطبقة المتوسطة 50 مليون غاضب في مصر، على حد تعبير عنوان تصدر حوار أجراه أخيراً اللواء أبو بكر الجندي، رئيس جهاز التعبئة والإحصاء، مع مجلة "المصور" الأسبوعية.

المشكلة ليست في تدهور أوضاع الطبقة الوسطى الاقتصادية والاجتماعية، وقسوة إجراءات الحكومة على أوضاعها، وإن ظلت برمتها مشكلة. تظل المشكلة الرئيسية في السياسة التي لا تعيد الاعتبار للطبقة الوسطى ومركزيتها المجتمعية والسياسية.

تبقى المشكلة في السياسة التي لا تنهض بأوضاع الطبقة الوسطى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فتنهضُ بالبلد.

لم يفهم الفكر السياسي ولا خطابه العام بعد أن الطبقة الوسطى إنما انفجرت في البلد بأحلامها أو قل بطموحاتها في "يناير"، وأن المشكلة البارزة الآن أن أحداً لم ينجدها أو يأخذ بيدها لتقف بعد انهيار وتحطم أحلامها وطموحاتها على الأرض، وأن لا حل إلا بـ"وقوفها على حيلها"، وبها تتم نهضة البلد.

طموحات الطبقة الوسطى جديرة بالاعتبار. لا شيء يحقق طموحات الطبقة الوسطى ويردها إلى مكانتها المستحقة سوى نظم الدولة الحديثة. نظم الحرية السياسية والاجتماعية. نظم إدارة المجتمع الذاتية لشؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

لا حل ولا مستقبل في مصر أو لمصر إلا برعاية واستنهاض الطبقة الوسطى في المجتمع. ما دونها حسبة اضطراب وخسارة.

شرائح كبيرة من الفئات الوسطى صارت والطبقات الدنيا سواء. يسكنون سوياً العشوائيات والأحياء الفقيرة بينما الأقلية الغنية تزداد ثراء. خلل اجتماعي رهيب. خلل سياسي رهيب. خطر قريب.
الطبقة الوسطى مصدر الاتزان فى البلد، ما دونها عدم اتزان.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة