الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٢١, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
قصص من الفشل اليومي - حسام عيتاني
بمواجهاتٍ صغيرةٍ شبهِ يومية وفاشلة، تخوضُ السلطة اللبنانية معركة بقائها مُحَاوِلة عدمَ تقديم أي تنازل للمواطنين المنتفضين الذين يفلحون، مع ذلك، في كل مرة في انتزاع انتصار صغير، لكنَّه محمّل بالدلالات التي يلتقي أكثرها على عدم قابلية رموز الحكم على إدراك أبعاد ما يجري في شوارع المدن.

فبعد أسبوع من تأجيل جلسة كان مقرراً أن يقرَّ فيها مجلس النواب جملة من مشاريع القوانين، من بينها مشروع قانون للعفو العام، وآخر لإنشاء محكمة مالية انتقدهما انتقاداً حاداً بعض من أبرز الحقوقيين اللبنانيين، دعا رئيس المجلس نبيه برّي إلى جلسة ثانية اعتبرها الثوار إمعاناً في تجاهل موقفهم، ليس من جدول الأعمال النيابي فحسب، بل أيضاً من أولوية بدء الاستشارات النيابية الملزمة التي ما زال فريق رئيس الجمهورية يمتنع عن الدعوة إليها في تجاوز صريح للدستور والأعراف.

شكّل الفشل في عقد الجلسة البرلمانية لمرتين خلال أسبوعين (في 12 و19 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي) انتكاسة واضحة للمؤسسة التشريعية، وطعناً في شرعية نوابها وسعة تمثيلهم للمواطنين بعد أقل من عام ونيف على انتخابهم في عملية شابها الكثير من الشبهات التي تبدأ من قانون مفصل على قياس قوى السلطة المتحالفة، ولا تنتهي مع عمليات التزوير وشراء الذمم والأصوات التي تحدث عنها الكثير من الهيئات المستقلة التي واكبت الانتخابات. ويضاف انحسار شرعية النواب بعد إصرارهم على تحدي إرادة الشارع وفشلهم في ذلك، إلى تساؤل حول صلاحية التفويض الذي حصل النواب عليه في الانتخابات الأخيرة والتي تبدو الآن وكأنها قد أجريت في قرن آخر بسبب سرعة التطورات.

أضيف إذن المجلس النيابي إلى المؤسسات الدستورية غير الفاعلة، ليس بسبب الثورة ونشاط المنتفضين ومطالبهم، بل بسبب ظاهرة تآكل مؤسسات الدولة وتساقطها واحدة بعد الأخرى تحت أعباء فساد المسؤولين عنها وفشلهم المدهش في فهم الإشارات التي يصدرها الشارع منذ أكثر من شهر. توقف هذه المؤسسات وانكفاؤها إلى أداء دور بؤر الثورة المضادة، على غرار ما ظهر من أعمال العنف التي قام بها مؤيدو رئيس مجلس النواب بعد ساعات على إخفاقه في جمع نصاب «ممثلي الأمة» لتمرير مشاريع قوانين أقل ما يقال فيها أنها مثيرة للجدل، يتكرر أيضاً في مؤسسة رئاسة الجمهورية التي يديرها عملياً وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال في منأى عن أي ضوابط قانونية أو دستورية.

فقأت هذه الممارسة عيونَ اللبنانيين المنتفضين والسياسيين، سواء بسواء، عندما طرح فريق رئيس الجمهورية اسم الوزير والنائب السابق محمد الصفدي مرشحاً لتولي رئاسة مجلس الوزراء، من دون المرور في الآليات الدستورية الضرورية. بل ذهب الفريق المذكور إلى تحديد طبيعة الحكومة المقبلة والأطراف المشاركة فيها، في حين يبلغ مستوى العمى السياسي الناجز عن كل ما يدور في الشوارع وفي الأذهان من آمال باستيعاب الجماعة الحاكمة بعض العبر مما جرى في الأسابيع الماضية والهزائم المتعاقبة التي مُني بها كل من جرّب الوقوف في وجه الموجة الشعبية أو الرهان على «تعب الناس» واستيائهم من إقفال الطرق لبعض الأيام.

التجاهل والعمى هذان سمتان تتشارك فيهما المجموعة السياسية اللبنانية مع الكثير من الفئات الحاكمة في البلدان العربية، التي رآها المواطن العربي تتكرر المرة تلو المرة والتي كانت تنتهي دائماً بتعقيد سبل الخروج من الأزمات، وتتبنى خيار العنف والحل الأمني عوضاً عن الإصغاء إلى مطالب المتظاهرين والتجاوب معها. وإذا كان اللجوء إلى العنف مضبوطاً في لبنان لأسباب، منها التنوع الطائفي، وتجنب الطرف الأهلي الوحيد المسلح الوقوع في مأزق القمع العاري لمعارضيه، إلا أن التلويح بأدوات الإكراه والقسر المادية والمعنوية وحملات التخوين وعمليات التحطيم النفسي، لم تغب للحظة عن المشهد. ذاك أن قوى الثورة المضادة الممثلة في التحالف الحاكم، ترى أن فتح باب التنازلات ولو على نطاق ضيق، سيجلب عليها موجة عاتية من المطالب التي ستفضي، لا محالة، إلى تغيير البنية السياسية الراهنة برمتها.

وإذ تدرك الجماعة الحاكمة ذلك، فإنها تضع نفسها في زاوية حرجة. من جهة، تسعى بكل عزمها إلى دفن اتفاق الطائف (1989) الذي لم يعد صالحاً للتطبيق بعد تغير موازين القوى الداخلية والدولية التي فرضته في تلك المرحلة، لكنها من الجهة المقابلة تفتقر إلى الحد الأدنى من القدرة على اجتراح رؤية جامعة لمستقبل لبنان ومواطنيه، ولسردية للماضي والحاضر، تتمكن من خلالهما من طرح نفسها كجماعة مهيمنة في الثقافة والسياسية والاقتصاد.

لذلك؛ يسير السياسيون اللبنانيون – والفوارق هامشية بينهم - من فشل إلى هزيمة أمام شارع يقظ، لكنه يعاني بدوره من مشكلات، لعل أهمها الخوف من الارتكاس إلى الانتماءات والانقسامات الطائفية والهوياتية.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة