الخميس ٢٨ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آذار ١٩, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
همجية ما بعد الحرب في لبنان - سمير خلف
الفترات الزمنية التي تلي الحروب، لا سيما تلك التي تطبعها فتنة أهلية وفوضى واضطرابات مطوّلة ومعمّمة على نطاق واسع، تُولِّد عادةً أمزجةً تنزع نحو ضبط النفس. يميل الأشخاص أكثر إلى كبح اندفاعاتهم التقليدية، ويمارسون سيطرة ذاتية أكبر بهدف إعادة تقويم خياراتهم المستقبلية وإعادة توجيهها. غير أن الحرب في لبنان، وبدلاً من تحرير الأشخاص من إفراطاتهم السابقة، ولّدت، للمفارقة، ردود فعل معاكسة. فقد أطلقت العنان للشهيات، وأشعلت لدى الأشخاص رغبات لا ترتوي للاقتناء الجشِع والتفلّت من القوانين وحيازة امتيازات غير مستحَقّة.

كانت بعض هذه الإفراطات فاضحة جداً إلى درجة أنها اكتسبت، في بعض الأحيان، جميع العوارض الهمجية المصاحِبة لبدائل الحرب غير الأخلاقية. لقد ولّدت ظروفاً حيث تمكّنت المشاعر العدوانية من التفلّت من القيود التقليدية والمتمدّنة. بالفعل، عُطِّلت معظم الكوابح التقليدية التي تضبط عادةً سلوكيات الأشخاص المفترِسة والمتهوّرة. وتَحوَّل السلوك المسترسِل في الصخب والفوضى وغير المنضبط ممارسةً روتينية. وبعض التصرفات، مثل تدمير المَواطن الطبيعية في البلاد، وانتهاك قوانين البناء والتنظيم المدني، والابتزاز، والاحتيال، والفساد، ونقص الوعي المدني والعام - الذي يتجلّى بصورة خاصة في تفشّي الجرائم الصغيرة والجُنح - ضاربة الجذور في المنظومة الثقافية القائمة على التهاون والليبرالية الاقتصادية المفرطة والزبائنية السياسية.

مثالٌ على ذلك، لطالما كانت المركنتيلية والقيَم البورجوازية المصاحِبة لها مطلقةَ اليد في لبنان. كانت نتائج الغلو في النزعة التجارية واضحة إلى درجة موجِعة في سنوات ما قبل الحرب. فعلى ضوء الزيادات الهائلة في أسعار الأراضي، أصبحت تجارة العقارات (لا سيما خلال الستينات عندما بلغ حجم التمدين وصناعة البناء ذروته)، من المصادر الأكثر استجلاباً للأموال التي ساهمت في تغذية الثروات الخاصة. وهكذا أصبح نهبُ المَواطن الطبيعية في البلاد من دون هوادة، وتجريد فسحة العيش من إنسانيتها، واضحَين للعيان وضوحاً صارخاً.

في ظل غياب سلطة الحكومة، باتت هذه التجاوزات أكثر انتشاراً. فما لم تُدمّره الحرب أتى عليه المتعهّدون الجشعون والمستهلكون المستهترون. لم يوفّروا شيئاً أو بالكاد فعلوا. فالخط الساحلي الذي كان يحافظ على رونقه الطبيعي في ما مضى باتت تُشوِّهه المعالم السياحية المبتذلة والمنتجعات الهابِطة والمارينا الخاصة فضلاً عن انتشار العشوائيات وغيرها من أشباه المساكن الرديئة وغير الشرعية. الممارسات الافتراسية التي تقضي على النبات والاخضرار نهشت الأحزمة الخضراء والحدائق العامة والبساتين المدرَّجة الآخذة في التقلّص. حتى الأرصفة والفناءات الخلفية في المنازل الخاصة عُرِّيَت وأُفسِدَت. نتيجةً لذلك، بدأت بيروت تعاني. لعلها تعاني من واحد من أدنى معدلات المساحات المفتوحة للفرد في العالم. فالمساحة المفتوحة في المنطقة المتروبوليتانية برمتها في المدينة تقتصر على 600000 متر مربع. وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، يجب أن يكون معدل المساحة المفتوحة لكل شخص نحو 40 متراً مربعاً كي تُصنَّف بأنها بيئة صحية وسليمة. أما المعدل في بيروت فلا يتعدّى 0,8 متر مربع لكل شخص.

ليست النزعة التجارية المتفشّية، والجشع، وسلطة الدولة المستضعَفة مسؤولةً لوحدها عن إحداث كل هذا الضرر. فهذه العوامل تزداد استفحالاً في المرحلة الراهنة بفعل الانفعالات المفرطة لذهنيةٍ نهِمة ظهرت بعد الحرب. يصبح الضحايا الذين قضّت مضجعهم لفترة طويلة فظائع المعاناة البشرية، غير مكترثين لهذه الهواجس أو التجاوزات التي تبدو حميدة وغير مهمة في الظاهر. عندما يصبح المرء مسكوناً بهاجس البقاء وتُطارده عبثيّاتُ حربٍ بشعة لم تنتهِ فصولاً، من المفهوم أن تتحوّل الضوابط الأخلاقية والجَمالية التي تحكم عادةً السلوكيات العامة، فضائل يمكن الاستغناء عنها. تبدو هذه الفضائل بعيدةً جداً في مواجهة المزاج المتهتّك السائد بعد الحرب الذي يجتاح شرائح واسعة من المجتمع. فضحايا المعاناة الجماعية تشغل بالهم عادةً مسائل بدائية أخرى. يحتقنون مرارةً، ويتطلعون إلى التعويض عن الوقت الضائع والفرص المهدورة. تصبح البيئة هدفاً بديلاً في المتناول يُنفِّسون عن غضبهم من خلاله. ففي ثقافةٍ تشرّبتْ رواسب عداوةٍ ومركنتيلية غير مستكينتَين، التعدّي على الموطن الطبيعي يدرّ أيضاً أرباحاً كثيرة. يَقبض الجشع والعداوة على خناق ضحيةٍ مؤاتية بالوكالة. استرسال المواطنين العاديين في رمي أوساخهم في البيئة وتشويهها، وعدم اكتراثهم البتّة للحفاظ على عافيتها الإيكولوجية أمرٌ يدعو للقلق الشديد ويدقّ ناقوس الخطر. ويزيد من حدّته المشهد السيئ والمتكرّر الذي يتجلى من خلال الكسّارات الممعِنة في تجاوزاتها، وقطع الأشجار، وزحمة السير الخانقة، والقيادة المتهوِّرة، وتلوُّث الهواء والتلوث السمعي، والطرقات السريعة المحفوفة بالمخاطر التي تنتهك أبسط شروط السلامة، ناهيك عن القواعد والآداب التقليدية للقيادة العامة.

وخير شاهدٍ على ذلك الزيادة الشديدة في مخالفات السير وحوادث السير القاتلة في الأعوام الأخيرة. فمخالفات السير وإجراءات وضع السيارات في الحجز القانوني - بسبب تزوير المستندات الثبوتية أو لوحات التسجيل، أو عدم الخضوع للمعاينة أو عدم تسجيل السيارة وفقاً للأصول المرعية الإجراء - تشهد زيادة مطردة. إشارة إلى أنه عام 1993، بلغَ عدد السيارات المحتجَزة 21692 سيارة، وعدد مخالفات السير 192487 مخالفة، وقد تضاعفت هذه الأرقام مرتَين تقريباً بحلول عام 1999. وبلغت نحو ثلاثة أضعاف بحلول عام 2018.

كذلك سجّلت حوادث السير زيادةً موازية. فقد كانت نسبتها متدنّية، بطبيعة الحال، خلال سنوات الحرب. على سبيل المثال، تُشير سجلات شعبة المعلومات لدى قوى الأمن الداخلي إلى أن عدد الإصابات لم يتعدَّ الستة وعدد القتلى لم يتجاوز العشرين في حوادث الاصطدام والسير التي وقعت عام 1987. وقد سجّلت هذه الأرقام زيادةً طفيفة، فبلغَ عدد الإصابات 21 وعدد القتلى 56 عام 1988. لكن اعتباراً من عام 1993، ومع توقُّف الأعمال الحربية، تُسجّل هذه الأرقام زيادة كبيرة ومطّردة. فبعدما بلغ عدد القتلى 274 وعدد الجرحى 2042 عام 1993، ارتفعت الأعداد إلى 331 و4210 على التوالي عام 1999. وبحلول عام 2018، ارتفع عدد حوادث الاصطدام إلى 3320. كذلك ازداد عدد الجرحى إلى 4383 وعدد القتلى إلى 362.

ربما كانت الأتوسترادات الجديدة، وبدء العمل في الآونة الأخيرة بالرادارات والتكنولوجيات الجديدة لمراقبة الطرقات، من العوامل التي تقف خلف هذه الزيادة. إنما لا شك في أنها ليست العوامل الوحيدة، لا سيما وأن الزيادة في المخالفات وغيرها من تجلّيات القيادة المتهورة كانت قائمة وملموسة قبل توافُر هذه المنشآت وبدء العمل بهذه التدابير.

هذه النزعة الثقافية شبه الفطرية لانتهاك التوقعات المعيارية أو الانحراف عنها واضحة وجليّة في تفشّي المخالفات العادية والجنح وغيرها من الخروقات للنظام العام. وهذه المخالفات والجنح والخروقات تُسجِّل أيضاً ارتفاعاً مطرداً: فبعدما بلغ عددها نحو 10000 عام 1993، ارتفع إلى 14000 عام 1996، و18000 عام 1999. تُدرِج قوى الأمن الداخلي عادةً، تحت خانة "المخالفات العادية"، جنحاً من قبيل مخالفة تنظيمات الحماية المتعلقة بصون الغابات والحدائق العامة والكثبان الرملية والمواقع الأثرية والسياحية وقوانين البناء والتنظيم المدني. وتُدرَج في هذه الخانة أيضاً المخالفات التي تطال الأحكام التي تُنظّم الصيد البري والبحري، والكسّارات، والمقتضيات التي تُحددها البلديات وتلك المتعلقة بالصحة العامة. تتحوّل هذه المجالات، مثلما هو الحال في التعدّيات الأخرى على المرافق العامة، لا سيما الماء والكهرباء والهواتف، ضحايا بالوكالة يُساء إليها من دون تردّد للتنفيس عن الغضب والعداوة المنحرفَين في هذا الاتجاه.

لقد بدأت الصحافة، في الآونة الأخيرة، بإيلاء بعض الاهتمام لهذه الانتهاكات، وعلى رأسها الانتهاكات الفاضحة في قضايا التعدّي على البيئة، والفساد، وسوء استخدام الأموال العامة في المناصب العليا. غير أن جزءاً كبيراً من الانتهاكات "العادية" الأخرى يبقى محجوباً ولا يخرج إلى العلن. وفي حال افتُضِح أمره، الغرامات المالية التي تُفرَض هزيلة جداً إلى درجة أن المخالفين لا يتوانون عادةً عن إبداء استعدادهم لتسديدها بكل طيبة خاطر.

في هذا السياق الغارق في الفوضى، ليس مستغرَباً أن يُصرَف النظر عن أي توجّسٍ يُعبَّر عنه بشأن الأبعاد الإنسانية أو الثقافية الجَمالية لمساحة العيش، وأن يجري التعامل معه على أنه مبالَغٌ فيه أو ساذج. نتيجةً لذلك، لم تولَ أهمية كبيرة لمسألة ما إذا كانت مساحاتنا العامة قبيحة، أو ما إذا كانت تَحط من قدر ساكنيها، أو ما إذا كانت مقبولة جمالياً أو روحياً أو مادّياً، أو ما إذا كانت تتيح للأشخاص فرصاً لتطوير شخصية فردية أصيلة وفرصاً للخصوصية وللقاءاتٍ إنسانية تُهذِّب الروح والفكر. المهم كان أن يُلبّي الوصول غير المشروط إلى الأراضي رغبتَين طاغيتَين: نَهَم البورجوازية الذي لا يرتوي سعياً وراء الأرباح، ومشاعر الثأر لدى المحرومين الذين يعتبرون أنهم يمتلكون الحق في التمتع بامتيازات غير مستحَقّة.

وعندما كانت السلطات تتدخّل لكبح هذه الانتهاكات أو إزالة مفاعيلها، وفق ما حصل تكراراً في سنوات ما قبل الحرب، كانت الجهود المبذولة، على الدوام، ضئيلة جداً وجاءت بعد فوات الأوان. وهكذا لم يكن أمام المسؤولين سوى تثبيت المخالفات وإدراجها في القوانين الشرعية للتنظيم المدني.

عالم اجتماع وأستاذ متقاعد في الجامعة الأميركية في بيروت
ترجمة نسرين ناضر عن الانكليزية


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة