الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٤, ٢٠١٩
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
'سيكولوجيا القطيع' - منى فياض
هناك مثل شعبي يقول: "ما في عالحكي جمرك"؛ بإمكانك أن تقول ما تشاء، متى تشاء، فلن يكلفك ذلك أي ثمن أو محاسبة.

هكذا صار وضع اللبناني مع قياداته السياسية. تتوالى التصريحات والتصريحات المضادة من نفس المسؤول ومن "خصمه". يتبادلان الأدوار والتهم، دون أن يرمش لهم جفن. تتوالى الوعود، التي لا يمكن وصفها إلا بالكاذبة، دون أن يخشى قائلها أي ردة فعل.

أصبح لبنان "كالحمّام المقطوعة مياهه"؛ مثل شعبي آخر. تعمّه الفوضى والصراخ والضجيج.

لكن "غيبة" الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله عن السمع مؤخرا وتكاثر الأقاويل حولها؛ كسرت الروتين. فلقد اعتاد الجمهور منذ فترة على ظهور متكرر عند كل شاردة وواردة. مع ذلك أكد لنا أنه معتاد على قلة الكلام وقلة الظهور! تبرير سهل لتغطية الارتباك أمام صدمة كشف الأنفاق وتعطيلها! مع ذلك لم يفاجأ "سيد المفاجآت" كما يسميه أتباعه، فقال إن اكتشافها أمر طبيعي! كأنها كانت لعبة غميضة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو، جاعلا من مجرد التأخر في كشفها من علامات الانتصار والقوة!

وجمهور حزب الله يصدق ويتهجم على من يتساءل: أحقا يشكل انفضاح أمر أنفاق كلفت الملايين من الدولارات وسنوات من الجهد والعمل الشاق والسري؛ انتصارا للحزب وإنجازا كاذبا لنتانياهو؟

وما بين "الانتصار" على إسرائيل وسياق تأليف الحكومة؛ يتفسخ البلد في ظل الجهود الضائعة لإنقاذ البلد من الانهيار! يزداد الشارع اللبناني بؤسا وانقساما ويمعن في تبعيته لقادته العظام.

فعلى الجماهير أن تتبع قادتها وتتعصب لمواقفها ولو أدّى ذلك إلى الخراب المطلق. فللقادة عادة، وهم أقلية أدركت كيف تتملك وسائل القوة والإكراه، باع كبير في تسيير أمور الناس! لذا ليس علينا سوى انتظار الفرج.

السؤال الملحّ: ما الذي يجعل كل ذلك ممكنا؟

لا ضير من التذكير بما يُعرف بـ"سيكولوجيا القطيع"، أو قدرة الجماهير على التكيّف مع أحكام خاطئة. برهن على ذلك اختبارا ميلغرام وآش السيكولوجيان. الأول جعل متطوعين متنوعين يقومون بتعذيب شخص يراد منه أن يتعلم مفردات لغوية. يطلب من المتطوع أن بطلق شحنات كهربائية تتزايد باطراد (إلى أن تبلغ قوتها 450 فولت المميتة) في كل مرة يخطئ فيها المتعلم، بناء على أوامر من أحدهم. والهدف من الدراسة قياس استعداد المشاركين في إطاعة سلطة تأمر بتنفيذ ما يتناقض مع ضمائرهم.

ولقد نفذ 65 في المئة من المشاركين تجربة التعذيب تلك حتى النهاية. ولم يرفض تنفيذها أكثر من 24 في المئة. لذا نفهم لماذا أطاع الألمان هتلر! ولماذا خضع العراقيون لحكم صدام؟ ولماذا تخضع الجماهير العربية لأنظمتها والطوائف لزعمائها؛ ولماذا يجد زعماء لبنان من ينقاد لهم.

ذلك أن عدد الأشخاص الذين لديهم الاستعداد لمقاومة السلطة أقل بكثير ممن هم على استعداد لطاعتها العمياء.

والأمر هنا يتعلق بمدى القدرة على تحمل المسؤولية الفردية أو عدمها. لقد برهنت هذه التجربة وغيرها أن المسؤولية الفردية تنتفي عندما يكون الشخص منفذا لأوامر شخص أو جهة أخرى؛ حينها يقل تأنيب الضمير. فهو غير مسؤول، لأنه ليس من قرر القيام بهذا العمل، بل قرر الآخرون عنه.

أما في تجربة آش فقدمت صورا فيها خطوط غير متساوية وكان على المفحوص أن يقارن مع صور أخرى ويقرر تشابه طول الخطوط فيما بينها. والهدف من هذه التجربة معرفة ما إذا كان الفرد يتكيف مع الجماعة ذات الأحكام الخاطئة. وفعلا عندما كانت تُجمِع المجموعة على الخطأ كانت غالبية المفحوصين يتبعونها.

أظهرت التجارب أن الرغبة في التكيّف تتعارض مع الرغبة في التغيير.

لماذا تتم الأمور بهذه الطريقة؟ ما الذي يفسر الانصياع للسلطة؟

إنها التنشئة الاجتماعية التي تدربنا على الطاعة؛ كما النقص في التعاطف مع الآخرين وعدم القدرة على إحلال أنفسنا مكانهم. ولأن المرجعية تمتلك سلطة تعتبر شرعية وذات مكانة: مرجع ديني، مرجع حكومي، منصب أكاديمي... أو أي سلطة رمزية.

فما سر التكيف الزائد دون أي تمييز؟

بعض العوامل الشخصية: رغبة الفرد بأن يكون محبوبا من قبل أعضاء الجماعة وغير منبوذ. الرغبة في أن يكون على صواب، والخجل الاجتماعي أو ألفة العمل والمحيط. لكن هناك أيضا حجم المجموعة والدعم الاجتماعي الذي توفره.

ويلاحظ أنه إذا كان هناك شخص واحد فقط يوافقك الرأي سيدفعك ذلك إلى الثبات على موقفك.

ولقد ثبت أن الأشخاص الذين يفضلون أن يكونوا على صواب على أن يكونوا محبوبين في الجماعة، هم أقلية وأقل تكيفا مع ضغوط المجتمع.

صحيح أن الانتماء إلى حضن حام وجالب للأمن هو من الحاجات الأساسية لدى الإنسان كالحاجة إلى الطعام أو التناسل. لكن هناك ظروف تجعل حاجة الانتماء هذه أكثر إلحاحا وتستعيد قوة أثرية بسبب الخوف الأولي الذي يجتاح الفرد في ظروف معينة؛ فيصبح كالطفل الخائف الذي يبحث عن الطمأنينة في حضن الأم.

وفي ظل الانقسام الاجتماعي الحاد والصراع المذهبي المتفاقم والمرعي من الطبقة السياسية، إضافة إلى التهديدات الإسرائيلية وتفكك أجهزة الدولة ومؤسساتها، ناهيك عن التهديد بالانهيار الاقتصادي؛ يعيش اللبناني في ظل الخوف والقلق على المصير.

تصبح الجماعة هي الملاذ الآمن للفرد والجهة التي تتحمل عنه المسؤولية وتقيه من الشرور. يسلّم الفرد قيادته في هذه الحالة إلى قائد موثوق يعفيه من المسؤولية. فيضعف إحساسه بمسؤوليته الفردية. ومع الوقت يعتاد التبعية المفرطة، لأي سلطة بديلة تأخذ على عاتقها مسؤولية القرار. وكلما ازداد الجهل تعمقت التبعية والخضوع، ما يجعل الفرد كالمدمن بحاجة إلى التوجيه الإجباري. فبعض الناس لا يتمتع بطبيعة تكفي لتخوله اتخاذ مواقف مستقلة أو ليفهم لماذا يرغم نفسه على القيام بما يقوم به!

يؤدي ذلك إلى جعل الجماهير غير قادرة على الحرية لأنها اعتادت الخضوع والطاعة السلبية للسلطة.

وإلى أن تتضافر ظروف التغيير، ليرحمنا الرحمن.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة