السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٥, ٢٠١٨
المصدر: جريدة الحياة
لا مركزية الاحتجاج العراقي - مشرق عباس
«إلى أين تتجه الأمور في العراق؟»، هذا السؤال الملح يتردد بقوة في كل مكان، على لسان موظف الدولة البسيط، والزعيم السياسي، وصاحب رأس المال، ورجل الدين، ويتساءل الجميع لأن أحداً لا يمتلك الإجابة، وأحياناً لا يريد أن يتورط بها، ولأن الشارع العراقي أصبح جزءاً من قرار الاتجاهات، وهذه المرة بلا قيادة ولا خريطة طريق ولا إطار محدد. والاحتجاج العراقي ضد العملية السياسية ورموزها كان قد بدأ قبل العام 2009، ووجد نفسه عام 2011 يحتل حيزاً في المكان العراقي ويصوغ هوية مدنية تواجه فساد حكم الأحزاب الإسلامية ويتماهى مع متغيرات الربيع العربي، لكن الاحتجاج يغير مساره ابتداء من عام 2012 ليصبح معبراً عن إعادة صوغ مفهوم «الطائفة» في نسختها السنية، ويخترع منابر مركزية في عدد من المحافظات تشكل نقطة التلاقي بين شيخ العشيرة ورجل الدين السني، ويعيد صوغ التظاهر باعتباره «مضيف» قبيلة كبيرة تلقى فيه الكلمات ويعاد في منبره إنتاج الهوية الفئوية التي اتّحدت مع هوية الدولة لعقود طويلة، وينتهي إلى ما انتهت إليه الأمور من سيطرة تنظيم «داعش» على الأرض وتهديم ذلك المضيف على رؤوس من فيه، وإعلان إنهاء الالتزام بالدولة العراقية. وفيما يعود الاحتجاج عام 2015 ليحتفظ برمزية المكان «ساحة التحرير» ويحولها إلى عاصمة للتظاهر، يعود أيضاً إلى منبره المدني لينتج معادلة غالبية مدنية غاضبة ضد الجرح الذي خلفه «داعش» في الذات العراقية، في مقابل أقلية إسلام سياسي حاكمة تسببت بالكوارث، ويتلمس في الوقت نفسه أن قدرات تأثيره بدأت تتعاظم، وأن آليات القمع التي واجهته سابقاً بدأت تتراجع، ومن ثم يدخل إلى المسار السياسي للتحالف مع تيار سياسي وشعبي يقوده مقتدى الصدر، فيتغير تمركز معادلة «الأكثرية المدنية» لتصبح «الأكثرية الشعبية»، و «أقلية الإسلام السياسي» إلى «أقلية أوليغارشية فاسدة».

تلك الخلطة الجديدة وجدت طريقها إلى التمثيل السياسي، وأصبحت حركة سياسية تعد بالتغيير وتطالب الشعب بالصبر، لكنها وهي تفعل ذلك، كانت قد اضطرت إلى التخلي عن مكانها الرمزي (التحرير) وخففت من شعاراتها ومطالبها الكبيرة انسجاماً مع وضعها الجديد، فيما كان الشارع خصوصاً الجنوبي منه، يغلي بعيداً من الرمزية المكانية والزمانية للاحتجاج، ويحمل قضايا مغايرة تتعلق بالدماء التي سالت من أبنائه خلال حرب «داعش» والأكاذيب التي سيقت، والنتائج التي انتهت إليها الحرب والسياسة، والانهيار الخدمي والمعيشي الذي تحمله وهو يراقب سرقة القوى السياسية والمجموعات المسلحة لقوته وأرواح شبابه، وعجزها في المقابل عن إنتاج دولة غير تابعة لجيرانها.

في لحظة الارتباك الجماعي، وتحوّل القوى التي حملت شعارات الدفاع عن المذهب إلى العمل السياسي والمالي، وتواصل طعنات الكهرباء والماء والصحة والتعليم والنظافة في صميم الكبرياء الوطني العراقي، كان الاحتجاج جاهزاً للتخلي عن كل تجاربه السابقة، لينتج شكلاً جديداً مدمراً، ويطور آلياته ليكون لا مركزياً ليس في المكان الذي أصبح كل شارع وكل دائرة حزبية أو رمز أمني أو حكومي، بل في مستوى القيادات التي أصبحت محلية وجماعية تدرك هدفاً مركزياً واحداً هو إحراق مقار الأحزاب واقتحام الحكومات المحلية.

في لحظة اقتحام المتظاهرين مطار النجف، كانوا قد أرسلوا الرسالة الأكبر بأن مستوى الاحتجاج قد ارتفع إلى هذه الدرجة، فكان على متظاهري الديوانية أن يرفعوه بدورهم باقتحام الحكومة المحلية، وطوّر متظاهرو كربلاء الدرجة إلى حرق المقار الحزبية، قبل أن يصل الاحتجاج إلى أقصى تجلياته في البصرة منتهياً إلى إحراق القنصلية الإيرانية.

عندما نتساءل عن مسارات الأمور في العراق، يجب أن نضع في الحسبان كل هذا التطور التدريجي في الآليات الاحتجاجية، ويجب أن نفهم أيضاً أن الاحتجاجات لو توافرت مجدداً البيئة والأسباب لانطلاقها في أية مدينة، لن تعود إلى ساحة التحرير حاملة لافتات وشعارات، بل ستبدأ من النقطة اللامركزية التي وصلت إليها تظاهرات البصرة، وهنا تحديداً يتشكل نمط الفهم الجديد لأخطار الاحتجاج العراقي وضرورة التنبيه المستمر إلى أن القوى السياسية لم تعد قادرة على مواجهة تداعياته مهما أعدت لذلك، وهنا أيضاً تكمن أسباب استمرار الجميع بالتساؤل القلق عن المآلات التي يمضي إليها العراق.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
الرئيس العراقي: الانتخابات النزيهة كفيلة بإنهاء النزيف
الرئيس العراقي: الانتخابات المقبلة مفصلية
«اجتثاث البعث» يطل برأسه قبل الانتخابات العراقية
الكاظمي يحذّر وزراءه من استغلال مناصبهم لأغراض انتخابية
الموازنة العراقية تدخل دائرة الجدل بعد شهر من إقرارها
مقالات ذات صلة
عن العراق المعذّب الذي زاره البابا - حازم صاغية
قادة العراق يتطلّعون إلى {عقد سياسي جديد}
المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي - حازم صاغية
هل أميركا صديقة الكاظمي؟ - روبرت فورد
العراق: تسوية على نار الوباء - سام منسى
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة