السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ١٢, ٢٠١٨
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
أسئلة دستورية من وحي المدرسة النجفيّة - شبلي ملاّط
النص في بغداد في 7 نيسان 2018، خلال افتتاحية "مؤتمر الباقرين الدولي، وحدة هدف وتكامل منهج "، بدعوة من الدكتور همام حمودي نائب رئيس مجلس النواب العراقي. والباقران هما المرحومان محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم. 

أَقسى ما يعانيه المشَرَّف بحضور هذا اللقاء غيابُ المحتفى بهما. حسبُنا تصوُّر وجود شَيْبِهما الوقور برفقتنا لولا الغدر الجاهل لهما ولرجال ونساءٍ عظام قدَّمهم العراق - والشرق - للعالم في عصرنا القاسي، وحَرَمَ أحبابَهم أنْسَهم، وغيَّبهم عن التراث العالمي المرافق لهم لو عاشوا عمرهم مليئاً مكتملاً دون انقطاع الوصال الذي يفرضه الوحش الإنساني وسيلةً لأطماعه. 

بعد اكتشافي كراسات الشباب عن "شبهات المستشرقين" عند محمد باقر الحكيم، وهي شبهات حمل لواءَها عالمياً المرحوم ادوارد سعيد، عرفت السيد الحكيم قائداً سياسياً في لمحات عابرة جداً، وهي قاصرة عن تناول أكثر عمقاً لشخصيته وتراثه.

طبعاً لم تتسنّ لي معرفة محمد باقر الصدر شخصياً، غير أنني لا أبالغ إذا قلت إن جهدي في دراسة كتاباته غيّر حياتي، وفتح عليها صداقات لا تحصى منذ لقائي بالمرحومين السيد مهدي الحكيم والعلامة الدكتور محمد بحر العلوم في لندن لأول مرّة عام 1986، فصداقات في انكلترا والعراق ولبنان تتوجت بعد ثلاثة عقود بلقاء السيد جعفر الصدر الذي أتحف الطبعة الثانية من كتابي في تجديد الفقه الاسلامي عند الصدر ورفاق النجف بمقدمة مأثورة علماً وبلاغة بعنوان "ماضٍ يرسم حاضرنا".

وإمامَ الإبداع محمد باقر الصدر شبّهتُه يوماً بعملاقٍ آخر في الفكر الإنساني، كارل ماركس. نختلف طبعاً في آراء كارل ماركس، كما لا بدّ أن تختلف في آراء محمد باقر الصدر، والعالم لا يزال يتساءل عن صحّة آراء كارل ماركس أصلاً، وبعضها خطيرٌ أو سخيف، مثلاً مفهوم دكتاتورية البروليتاريا. ولا شك عندي اليوم، بالعودة الى التجربة العراقية المديدة، أن كتابات محمد باقر الصدر المتألقة في النظام الدستوري المستسقى من ثلاثية لا مثيل لها في علمي المتواضع في التراث العالمي، والمنطلق من الآية الرابعة والاربعين من سورة المائدة -وقد أنزلنا التوراة ... الآية -، فالبعد الفلسفي الذي يميز الفرد والمجتمع في عصمة الاسلام عبر التاريخ في منابع القدرة، فاللمحة الفقهية التمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية في ايران، هذه الثلاثية البديعة من المرجّح أننا كلنا نختلف على نتيجتها اليوم، وهي أحقّية قرار علماء الدين على غيرهم في المنظومة الدستورية.

ومن رافق كتابات محمد باقر الصدر، وكتابات ملازمة لمحمد باقر الحكيم، أيضاً رافق الشكوك العلميّة عندهما، كما تغيير المواقف وتحديثها. فمن جهة، نعرف اليوم بعض كتابات الصدر الشاب في الدستور الإسلامي، ولو غاب عنّا كتاب مجتمعنا، كما نعرف أن مساهمة السيد باقر الحكيم، فالمرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومقدمة السيد جعفر محمد باقر الصدر المشار اليها أعلاه، و من منكم ينتمي الى هذه المدرسة النجفية العريقة، هذه المساهمة الدستورية لم تحتجّ في بداياتها كما في نهاياتها بأحقية علماء الدين في القيادة السياسية مكرّسةً في الدستور.

أتمنى قراءة بحثٍ يوماً قريباً في هذا التراث عنوانه ’النظرية الدستورية من أضواء النجف الى لجنة إعادة صياغة الدستور‘. هذه أطروحة واسعة في معالمها العلمية تشمل نقاشات في الحريات الأساسية للمواطن فرداً وجماعة، والمنظومة الحاكمة بسلطاتها الثلاث، كما الهيكل الإتحادي في العراق الجديد.

هي نقاشات في أسئلة المدرسة الصدرية، أو المدرسة الباقرية في عنوان ندوتنا، أختصرها بثلاث مسائل بحثية، تضاف الى المسألة الأولى عن أحقية رجال الدين الدستورية في قيادة الحكومة.

المسألة الثانية في الحريات العامّة للمواطن. قد أكون ساذجاً لكنني أرى في العراق كما في لبنان وتونس انهياراً لجوّ الخوف من تعرّض الناس لأهل السياسة عموماً، وللرئاسات فيها بشكل خاص. هذا التعرّض يأتي بأشكال وتعابير مختلفة، وليست كلّها مهذبة في مفرداتها، أو صائبة في محتواها، أو أنيقة في أدائها. لكن أيّاً من المتعرّضين و المعترضين يخاف الحبس، أو التعذيب، أو القتل، فيما لا يزال الحبس والتعذيب والقتل أهمّ الطبائع المعتمدة للأسف في سائر المنطقة لمعاقبة أيّ منتقدٍ لأرباب الحكم، مهما كان حديثه مهذباً. وهناك استثناءات في العراق ولبنان وتونس، لكن الناس لا يخشون على العموم الدفع بآرائهم خوفاً من العقاب العنيف الذي ما تزال المنطقة تعاني منه في البلاد العربية وتركيا واسرائيل وايران.

كيف يمكن دعم هذه النزعة، أي المحافظة على الحريات العامة وتوسيعها؟ موضوع حرية التعبير متشعب، ومن أهمه دور المحاكم للدفاع عنه. لكن الثقافة والجو العام مهمان أيضاً. وفي بعض الجواب على السؤال أخالُ سيرةَ الباقرين تلقي بنورها الحارّ، سلباً وإيجاباً، سلباً بمعنى تضحيتهما من أجل الكلمة الحرّة، وإيجاباً في خوضهما المعترك السياسي بالقلم وليس بالعنف.

سؤال آخر عن تمثيل الناس في الحكومة. صورة افتتاحيتنا بهذه الرموز الأساسية في الدولة - رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس المجلس - تطرح سؤالاً له دلالاته المركّبة: ماذا عن كردية رئيس الجمهورية وشيعية رئيس مجلس الوزراء وسنية رئيس المجلس النيابي ، هل باتت عرفاً عراقياً معتمداً، أي هل أنه أحرى بنا أن نتحدّث عن سنية رئاسة المجلس النيابي، وشيعية رئاسة مجلس الوزراء وكردية رئاسة الجمهورية؟ هل دخل العراق في هكذا منظومة دستورية هجينة قومية - مذهبية أكثر تعقيداً من النسق اللبناني فصارت فيه سنّةً دستورية؟ وما عسى ان يكون رأي المحتفى بذكرهما من هكذا منظومة؟

السؤال الرابع الذي يثيره مؤتمرنا عن وحدة الهدف وتكامل المنهج في الباقرين هو المقاربة الدستورية للإتحاد والتكامل في العراق. السؤال مطروحٌ اليوم في سبل معالجة أزمة التكامل في دولة تكرّس نفسها في دستورها نظاماً اتحادياً. هذ مفهوم جديد في قالبه الدستوري في المنطقة، ولو أظهر فقيدنا الكبير السيد حسن بحر العلوم في كتابه الإسلام والفيديرالية أن الموضوع ليس جديداً في معضلاته كما في بعض جوابات التراث عليه.

الموضوع الإتحادي في العراق واسع، ويعيدنا الى سؤال الحريات. فهل من احترام مختلف للحريات العامة في الإقليم الكردي عن سائر العراق الإتحادي؟ هل يمكن سنّ البرلمان الكردي المعترف به اتحادياً قانوناً يضيّق على الحريات، أو يزيد منها، عن سائر العراق؟ بل في سياق السؤال المرتبط أيضاً بالسؤال الثالث عن توزيع السلطات، وقد بات أكثر إلحاحاً بعد الإستفتاء الصيف الماضي في كردستان: هل أنّ معالجة موضوع توزيع سلطات المركز والاطراف في العراق هي معالجة سياسية صرفة، أم من الأفضل أن يدخل عليها الطرح الدستوري الأعمق والأوسع؟ هل مشكلة صرف المرتّبات في كردستان من الحكومة المركزية موضوع سياسي آني ومرحلي، أم أن غيابَ تفعيل المجلس الإتحادي كما رسمته المادة 65 من الدستور العراقي هو المشكلة التي أدت الى الإستفتاء أصلاً؟

فمجلس الإتحاد لا يزال غائباً في العراق رغم الجهود الحثيثة التي عشناها في مواكبة عمل لجنة صياغة الدستور بقيادة الشيخ الدكتور همام حمودي في 2009-2010، ورغم عمل كلّ من الدكتور فؤاد معصوم والدكتور سليم الجبوري لاستحداث المجلس بدراسات وافية ومشاريع قانونية جدّية ومستمرة، ورغم القرارات والتوصيات المهمة في إنشاء المجلس من المحكمة الإتحادية العليا. وهل مثل هذا الغياب جائز في دولة يصفها دستورها بالاتحاديّة؟

هل معالجة الأزمة الإتحادية في العراق ما بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان فقط من باب السياسة، أو هل أن المعالجة ترقى الى معضلة دستورية لا مجال لحلّها من دون انتخاب مجلس الاتحاد وتفعيل دوره الجامع للأقاليم والمركز؟

محامٍ دولي وأستاذ في الحقوق


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
الرئيس العراقي: الانتخابات النزيهة كفيلة بإنهاء النزيف
الرئيس العراقي: الانتخابات المقبلة مفصلية
«اجتثاث البعث» يطل برأسه قبل الانتخابات العراقية
الكاظمي يحذّر وزراءه من استغلال مناصبهم لأغراض انتخابية
الموازنة العراقية تدخل دائرة الجدل بعد شهر من إقرارها
مقالات ذات صلة
عن العراق المعذّب الذي زاره البابا - حازم صاغية
قادة العراق يتطلّعون إلى {عقد سياسي جديد}
المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي - حازم صاغية
هل أميركا صديقة الكاظمي؟ - روبرت فورد
العراق: تسوية على نار الوباء - سام منسى
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة