السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
لبنان رسالة... لكنها لم تنجح بعد - ريان عساف
بين اعتبار لبنان رسالة ومقولة لبنان التجربة الفاشلة فارق شاسع. بينهما واقع وتحدّي العيش المشترك الذي تميّز به عبر تاريخه بين أقليّات طائفيّة على حدّ تعبير ميشال شيحا. لبنان رسالة اجتماعيّة وسياسيّة تقوم على تحدّي احترام الاختلاف بعيداً من الخلاف.  

هذه الرسالة وصلت اليوم الى مختلف أنحاء العالم وباتت دول كثيرة تواجه التحدّي نفسه. ففرنسا مثلاً، التي هي دولة قائمة منذ الثورة الفرنسيّة على العلمانيّة ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات في دولة مدنيّة بعيداً من أي تميّز لأي مجموعة، باتت تواجه اليوم مسألة التعايش الإسلامي - المسيحي وتحاول التأقلم معها، وتبحث عن الطرق المثلى لهذه الغاية من خلال أبحاث ونقاشات دائمة. وقد برز في هذا السياق منذ عام 1989 مفهوم الـ communautarisme في فرنسا(لأوّل مرّة في مقال في صحيفة "لو موند" الفرنسيّة)، وهي عبارة ذات بعد اجتماعي سياسي تعبّر عن إرادة وتطلّع أقليّات (ثقافيّة أو اتنيّة أو دينيّة) الى التميّز عن/ وفي المجتمع، فتطالب هذه المجموعات الثقافيّة والدينيّة المختلفة بالاعتراف بخصوصيّتها وبالتالي بتخصيصها ببعض الحقوق، وهي محاولات تلقى معارضة من مفكّرين مستقلّين كثر وليس فقط من قبل أقصى اليمين الفرنسي. ويستند مشجّعو هذا الاتجاه اليوم الى أنّ هويّة الفرد لا يمكن أن تُبنى الا في إطار communauté يجد فيها قيمته الذاتيّة، علماً بأنّ الأميركيّين يعتدّون بما يسمّونه الـ melting pot الذي سمح ويسمح لمجموعات تنتمي الى أصول قوميّة واتنيّة ودينيّة مختلفة بالاندماج في الهويّة الوطنيّة الأميركيّة الواحدة التي يميّزها الولاء للعلَم الأميركي والتشارك في الـ way of life (طريقة ومفهوم عيش مشترك، في إطار فيديرالي).

الميثاق الوطني اللبناني الذي عبّر عن جوهره عام 1943 رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري ورئيس مجلس الوزراء رياض الصلح في البيان الوزاري لحكومته والى حدّ ما رئيس مجلس النواب صبري حماده، قائم على فكرتين: لا شرق ولا غرب من جهة، ومشاركة الطوائف في السلطة أو ما يُسمّى اليوم power sharing من جهة أخرى. هذا الميثاق انطلق من خصوصيّة لبنان ألا وهي تحديداً العيش المشترك بين المسيحيّين والمسلمين. وبالتالي الدستور لم يكن يكفي منذ البدء لكي يدير التنوّع وممارسة السلطة على رغم تكريسه مبدأ الديموقراطيّة والنظام البرلماني، وهناك أمثلة على ذلك.

(على سبيل المثال، اقالة وزير الخارجيّة فيليب تقلا من قبل الرئيس سليمان فرنجيه عام 1976 وفقاً للنص الدستوري وتعيينه كميل شمعون وزير خارجيّة بديلاً، ورفض رئيس الوزراء في حينه لهذا القرار استناداً الى الميثاق الوطني وارساله مذكّرة الى الامين العام للأمم المتحدة اعتبر فيها نفسه بأنّه هو يقوم بمهمات وزير الخارجية وليس كميل شمعون).

هذا الواقع أو الفكرة التي قام عليها ميثاق الـ 1943، أي تقاسم السلطة بين مختلف العائلات الروحيّة اللبنانيّة، بات يُسمّى اليوم الطائفيّة. (اذ يكفي البحث عبر الانترنت عن معنى كلمة الطائفيّة أو confessionnalisme لملاحظة أنّه يُقصد بها نظام حكم يوزّع بحكم القانون السلطة السياسية بشكل نسبي بين طوائف عدة، فتُوزّع فيه المقاعد الحكوميّة نسبيّاً بين الطوائف). وباتت الكلمة مرادفة للصيغة اللبنانيّة في الحكم، فيعطى لبنان كمثل وحيد عليها.

تختلف نظرة اللبنانيّين الى الطائفيّة؛ فالبعض يحصر أزمات لبنان في نظامه الطائفي ويعتبر أنّ المشاكل التي تعطّل الحياة السياسية والمحن والأحداث التي شهدها لبنان سببها هذه الصيغة للحكم التي تتعارض مع مفهوم المواطَنة. في هذا الإطار، نصّ الدستور اللبناني في الفقرة "ح" من مقدّمته على أنّ الغاء الطائفيّة السياسيّة (التي يقصد بها الغاء التمثيل السياسي المتوازن للعائلات الروحيّة) هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحليّة.

في المقابل، يعتبر قسم آخر من اللبنانيّين أنّ النظام الطائفي هو مثال يحتذى به وهو نظام إشراكي وليس اقصائيا يحول دون استئثار أي طائفة بإدارة دفّة الحكم أو السيطرة على الآخرين أو تطويعهم أو الغائهم ويرسو على قاعدة الاحترام والاعتراف بالآخر المختلف، وأنّها، أي الطائفيّة، أرقى نظام مشاركة للدول التعدّديّة. كما يعتبر أصحاب هذا الرأي أنّ الوقائع الراهنة والمتغيّرات النوعيّة العالميّة والاقليميّة العاصفة ليس من شأنها سوى التأكيد على أنّ المحافظة على تمثيل العائلات الروحيّة أصبحت حاجة حيويّة ماسّة جداً بالنسبة الى اللبنانيّين. ويجد هذا التوجّه تعبيراً له في البند "ي" من مقدّمة الدستور اللبناني الذي ينصّ على أن لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. وقد شكّل هذا البند في السنوات الأخيرة منطَلَقاً لاعتبار الحكومات التي يقدّم فيها الوزراء المنتمون الى طائفة معيّنة استقالتهم منها غير شرعيّة.

لا شكّ في أنّ النظام الطائفي اللبناني كرّس الانتماء الى الطائفة أو المذهب في مسائل الأحوال الشخصيّة، إلّا أنّه في الإطار السياسي هدف الى تأمين مشاركة المكوّنات المختلفة في الحياة السياسيّة وفي بناء الدولة. وعندما تُبنى الدولة بمشاركة الجميع، تُصان المواطنة وتتعزّز. لقد اختبر لبنان بناء الدولة في ظل الميثاق والنظام الطائفي مع الرئيس فؤاد شهاب، الذي عَمِل على بناء المؤسسات ولا سيما أجهزة الرقابة. الا أنّ هذا الاختبار انتكس مع التشنّجات الطائفيّة التي تسبّبت بها الحرب منذ العام 1975، بعدما كانت قد اهتزّت بعض الشيء عام 1985 والتأمت تحت شعار لا غالب ولا مغلوب.

هناك دول عديدة في العالم ذات مجتمعات تعدّدية (اتنياً وثقافيّاً وحضاريّاً... كالولايات المتحدة، وسويسرا، وبلجيكا...) واجهت عبر تاريخها مسألة البحث عن النظام السياسي الأفضل لإدارة التنوّع. لقد نجحت هذه الدول، الى حدود متفاوتة، من خلال الأنظمة التي اعتمدتها في حماية هذا التنوّع وبناء دول تؤمّن لمواطنيها، أيّاً كان انتماؤهم، حياة لائقة وكريمة.

الّا أنّ لبنان، ومن خلال ممارسات وعوامل عدّة، لم يتمكّن من بناء دولة قويّة وذلك على أكثر من صعيد أمني وخدماتي بشكل خاص، قادرة على أن تكون ملجأ للمواطن وتؤمّن حاجاته فيتعزّز لديه شعور الانتماء اليها، انّما من خلال اضعاف الدولة تمّ تكريس الانتماء سياسياً للطائفة بديلاً من الدولة والوطن. فتحوّلت الطائفيّة من نظام يهدف الى مشاركة العائلات الروحيّة في السلطة لبناء الدولة، الى مشاركة في السلطة لتعزيز الطائفة على حساب الدولة. ومن أبرز العوامل التي منعت قيام الدولة: تعزيز المحسوبيّة والزبائنيّة والمحاصصة والفساد، وتعطيل المحاسبة، والاستقواء بالخارج، وتغييب تنوّع التمثيل السياسي داخل الطوائف وانشاء أحزاب طائفيّة وتغييب الأحزاب العابرة للطوائف.

فهل كانت مسؤوليّة الأشخاص أم مسؤوليّة النظام؟

من الأسباب الرئيسيّة التي أدّت الى تفشّي هذه الأمراض بقوّة في لبنان هو أوّلاً الحروب المتتالية التي تعرّض لها البلد الذي جعل مسـألة الحماية مسألة أولوية للمواطنين، وثانياً مسألة غياب المحاسبة، لا سيّما الشعبيّة. يتماهى مفهوم المواطَنة اليوم الى حدّ كبير مع حقّ الانتخاب الذي هو المدخل للمشاركة السياسية الهادفة الى بناء الدولة. لقد تخلّى اللبنانيون عن حقّهم الأساسي بمحاسبة ممثّليهم، فنجدهم يشكون من أداء السلطة السياسيّة القائمة الا أنّهم لا يتردّدون في إعادة انتخابها.

انّ انتماء الفرد الى طائفة معيّنة ينبغي ألّا يحول دون قيامه بواجباته كمواطِن تجاه دولته وتجاه المجتمع، والمتمثّلة بالإضافة الى ممارسته واجبه بالمحاسبة من خلال الانتخابات، باحترام الآخر ومؤسسات الدولة والتزامه باحترام القوانين والأنظمة. انّ الميثاقيّة التي بُني عليها لبنان، والتي تُرجِمت بالنظام الطائفي تقوم على مشاركة مختلف العائلات الروحيّة في السلطة وليس بالضرورة الأحزاب الطائفيّة. هذه الطائفيّة التي تهدف الى المشاركة في السلطة وبناء الدولة، يُفترض ألّا تتحوّل الى تعسّف وإلغاءٍ للآخر في الطائفة أو في الوطن أو الى وسيلة لتعطيل المؤسّسات.

لبنان رسالة، على اللبنانيين كتابة مضمونها. لغاية اليوم لم ينجحوا في التحدّي ولم يحوّلوها نموذجاً صالحاً للاحتذاء به. لقد أساؤوا تطبيقها وحادوا عن جوهرها ما أدّى الى اعتبار البعض أنّ التجربة فشلت. الّا أن هذا البعض لم يستطع لغاية اليوم تقديم بديل من هذه الصيغة يحفظ التنوّع ضمن الوحدة ويسمح ببناء الدولة.

باحثة 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة