الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
هل من "عقيدة إستراتيجية" أميركية في الشرق الأوسط - ناصيف حتي
هنالك تقليد راسخ في السياسة الخارجية للولايات المتحدة قوامه أن كل رئيس يأتي في بداية عهده بما يعرف بعقيدة إستراتيجية تحمل إسمه. عقيدة تعكس رؤيته، تجاه مخاطر قائمة أو محتملة تحتل الأولوية على جدول الأهداف والمصالح الإستراتيجية الأميركية. وللتذكير ببعض أهم هذه الإستراتيجيات غداة الحرب العالمية الثانية نشير إلى عقيدة ترومان أو استراتيجية احتواء الخطر السوفياتي على حدود تركيا واليونان، وعقيدة أيزنهاور لدعم الدول التي تواجه الخطر السوفياتي والشيوعية في الشرق الأوسط، وعقيدة نيكسون لدفع الحلفاء الآسيوين إلى المشاركة بشكل أكبر في الدفاع عن ذاتهم، وعقيدة كارتر القائمة على التهديد باللجوء إلى القوة عند الحاجة للدفاع عن المصالح الأميركية في الخليج، وعقيدة ريغان التي تمحورت حول الخطر السوفياتي في أفغانستان ومواجهته وعقيدة كلينتون أو عقيدة الإحتواء المزدوج ضد إيران والعراق، وعقيدة بوش الخاصة بأفغانستان أيضاً، وعقيدة أوباما أو "القيادة من الخلف" خوفًا من الإنجرار للغرق في "المستنقع" الشرق الأوسطي والأوكراني.  

مجمل هذه العقائد تمحورت بشكل أساسي حول الشرق الأوسط أو حول جواره المباشر مما يعكس مركزية الموقع الجغرافي الإستراتيجي لهذه المنطقة في العالم خلال الحرب الباردة وبعدها أيضًا إلى يومنا هذا. ولا بدّ من التذكير أنه في لحظة معينة غداة إنتهاء الحرب الباردة كان هنالك شعور أن مركز الثقل والإستقطاب الإستراتيجي في العالم إنتقل إلى منطقة "آسيا المحيط الهادئ". لكن "الربيع العربي" الذي سرعان ما خطفته الصراعات الدولية والأقليمية من ليبيا إلى سوريا إلى اليمن بشكل خاص "و دولت" ما بدأ كمشكلة داخلية في هذه الدول وغيرها أعاد الشرق الأوسط ليحتل المكانة التي كانت له كمركز الثقل في الصراعات والمواجهات الإستراتيجية في نزاعات تملك جاذبية كبيرة لكل أنواع التدخل وتحت مسميات مختلفة.

السؤال الذي يراود كثيراً من المراقبين قوامه هل نشهد ولادة عقيدة ترامب وما هي ملامحها حاليًا؟ الرئيس الأميركي في تصريحاته وخطاباته الحادة والصدامية والإيديولوجية أحيانًا، كما شهدنا أخيرًا في كلمته في الأمم المتحدة، أظهر أنه تخطى منطق "الأمة التي لا يمكن الإستغناء عنها" الذي حكم وبرر سياسة الزعامة الأميركية الدولية وتوظيف الإمكانات لخدمة هذا الدور.

إقترب من عقيدة ترومان لكنه بالطبع لن يقبل بـ"خطة مارشال" وتكاليفها وتضحياتها المادية لدعم استقرار الأصدقاء المهمين والضروريين. تراجع الدور الأميركي ليس بجديد مع بدايات تبلور نظام عالمي متعدد القطب ومع التراجع النسبي في القوة الأميركية في مختلف أبعادها. ترامب يتمسك بأولوية "القومية الأميركية" وبـ"أميركا أولاً" الذي يعني عمليًا إعتماد منطق إنتقائي والتزاماً محدوداً ومتراجعاً في ما يتعلق بالدور القيادي أو الرئيسي العالمي لواشنطن. الكاتب الأميركي فريد زكريا يتساءل في تعليقه على خطاب ترامب في الأمم المتحدة ما إذا كان الرئيس أعلن الدخول في "عالم ما بعد أميركا" أو ما بعد الزعامة والريادة التقليدية الأميركية الحاملة بالطبع لإلتزامات وانخراط دولي ناشط. فالولايات المتحدة لن تستثمر أمكاناتها لقيادة مكلفة لتحالف أو تحالفات تنتمي إلى الأمس القريب والبعيد. الأولوية القومية بمفهوم ترامب هي مزيج من الانعزالية النسبية والواقعية الشديدة والإنتقائية الكبيرة في ما يتعلق بالدور العالمي لواشنطن، ولو أن ترامب أيضًا ينتقد خصومه أو أعداءه تحت عنوان غياب الديموقراطية والليبرالية عند هؤلاء، لكن يبقى "خطابه " الديموقراطيّ اللبيرالي شديد الإنكشاف وفاقد الصدقية، رغم أن سياسة الكيل بمكيالين ليست جديدة في السياسة الأميركية أو في سياسات القوى الكبرى. الشرق الأوسط يفترض أن يشكل المجال الإستراتيجي لبلورة عقيدة ترامب، لكن تبدو سياساته بعيدة عن ذلك حتى الآن. خطاب صدامي مع إيران وتهديد بالإنسحاب من الاتفاق النووي ضعف مع إبتعاد القوى الكبرى الأخرى عن موقفه. خطاب لا يقدم إستراتيجية واقعية إذ قد يطمئن بعض الحلفاء الإقليميين على المدى القريب لكنه لا يوفر سياسة لخلق استقرار إقليمي طويل الأجل يضع ضوابط وقيوداً على الدور الإيراني. الحرب الكلامية ضد إيران والفشل في اسقاط الإنفاق النووي خدما المصالح الإيرانية. كما أن اللجوء إلى استراتيجية أوباما، التي ينتقدها بشدة في "القيادة من الخلف" في المسألة السورية من خلال التفاهم والتنسيق بالقطعة مع موسكو وعرقلة قيام مجموعة اتصال حول سوريا لإبعاد إيران وعدم الإنخراط في مسار أستانة كلها عناصر تهمش الدور الأميركي. كذلك الأمر بالنسبة الى غياب دور ناشط لرأب الصدع بين حلفائه في الخليج وهو ما تستفيد منه إيران بشكل أساسي أيضًا. إنها سمة أخرى في سياسة تندرج في مفهوم القيادة من الخلف.

وأخيراً وليس آخراً عدم الإنطلاق الجدي في عملية تسوية القضية الفلسطينية كما وعد بسب مواقفه وأولوياته التي هي على نقيض من شروط اطلاق ورعاية مفاوضات جدية. إن محاولة توظيف هذا الحراك خدمة لإستراتيجية المواجهة مع إيران لا تخدم مصالح واشنطن ولا حلفاءها في إقامة الإستقرار على المدى البعيد في المنطقة.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن زلماي خليلزاد السفير الأميركي السابق في الأمم المتحدة وفي بغداد وفي كابول وهو من الصقور سياسيًا في واشنطن اقترح استراتيجية كان يمكن حسب كتاباته أن تشكل عقيدة ترامب الشرق الأوسطية. استراتجية تقوم على مزيج من الاحتواء والإنخراط cogagement أو في كلام بسيط على مزيج من الجزرة والعصر. ولكن يبدو أن الرئيس الأميركي لم يقتنع بعد بأهمية بلورة مقاربة شاملة وناشطة ومتكاملة خارج إطار المواقف والسياسات غير المترابطة وغير القادرة على إحداث التغيير المطلوب واحتواء وإنهاء حالة الفوضى المتفجرة والمدمرة التي تعيشها المنطقة.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة