الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
صورة النصر... من بور سعيد إلى الموصل! - وحيد عبدالمجيد
لم ينهِ طرد «داعش» من الموصل معاناة سكانها وخوفهم. لا يختلف في ذلك من بقوا في المدينة ورأوا الموت بأعينهم، ومن عادوا بعد نزوحهم، ومن لا يعرفون متى يعودون، ومن يحاولون جمع شمل أسرهم، ومن يبحثون عن أطفال مفقودين. لكن أكثر ما يُخيف في الموصل المنتصرة شبح الانتقام المذهبي بأشكاله المختلفة التي تُعد الاعتقالات العشوائية بتهمة الانتماء إلى «داعش» أو موالاته أكثرها شيوعاً.

ربما عرف أهل الموصل، أو سمعوا، أن عرضاً عسكرياً كبيراً أُقيم في بغداد في 15 الشهر الماضي غداة إعلان النصر الكبير. ولعل الأكبر سناً بينهم وجدوا في هذا العرض، وغيره من مظاهر الاحتفال بالنصر، إعادة إنتاج لصورة نصر صُنعت مرات في بلدان عربية عدة، منذ دشن جمال عبدالناصر تقليداً يُحيل الهزائم انتصارات عظيمة يُحتفى بها، ويُخفي اختلالات خطيرة تتطلب إصلاحات ملحة.

كان عبدالناصر يبحث عن صورة نصر تُدعّم انفراده بالسلطة، فوجدها عندما التقت مصلحتا واشنطن وموسكو الصاعدتين وقتها إلى قمة النظام العالمي، عند إنهاء العدوان الثلاثي الذي ضرب مصر في 1956. واختار يوم مغادرة المجموعة الأخيرة من الجنود الإنكليز والفرنسيين (23/12/1956) ليكون عيد النصر.

وكان العرض العسكري أهم مظاهر احتفال أسطوري سنوي بذاك النصر حتى وقعت هزيمة 1967، التي فشلت محاولة خجولة لتخفيف وطأتها عبر صناعة صورة نصر آخر، من باب أن العدوان فشل في إسقاط النظامين الثوريين في القاهرة ودمشق.

وصارت صناعة صورة نصرٍ ما تقليداً في كل بلد عربي خضع لسلطة مطلقة أضعفت قدرته على تحقيق اختراق أو إنجاز كبير. وكل مرة تُصنع صورة نصر، يستخدم صانعوها بسالة من يُساقون إلى حروب هنا وهناك، ودماء ضحاياها، لترسيخ سلطتهم، وإنكار أخطائهم أو خطاياهم، وتجاهل أسئلة المستقبل. وقد يهربون إلى الأمام، ويُقدمون على مغامرات مجنونة مثلما حدث في العراق بعد صناعة صورة النصر العظيم في نهاية حرب الثماني سنوات (1980-1988)، أو يستعدون لصناعة صورة ثانية وثالثة بأي ثمن، كما حدث ثلاث مرات بين 2008 و2014 في غزة، حيث قال منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في تقريره الصادر في 11 الشهر الماضي، إنه لن يكون صالحاً للحياة بحلول 2020.

وفي هذه الحالات كلها، وغيرها، تُوظَّف صورة النصر لتغطية اختلالات عميقة تنخر المجتمع. وما الحروب الأهلية المشتعلة والكامنة في بلدان عربية عدة اليوم إلا إحدى نتائج هذه الاختلالات، وفي مقدمها استباحة حقوق المواطنة، التي يصبح الحديث عن شعب افتراضياً في غيابها، ويغدو الكلام عن وطن مجازياً من دونها.

وحين يحدث هذا، تصير الفئات الاجتماعية، التي يُحرم أفرادها المجال العام المفتوح لتفاعل طبيعي يتجاوز انتماءاتهم الأولية، مجموعات منعزلة تُكوّن كل منها صورة نمطية سلبية عن الأخريات، ويُطلق عليها الآن في بعض تلك البلدان «مكونات». وتتباعد المسافات بين هذه الفئات، وتغدو كل منها خائفة من أخرى أو متربصة بها، على نحو لم يتخيل المفكر الإنكليزي توماس هوبز أن مفهوم «حرب الكل ضد الكل» الذي سكّه في القرن السابع عشر سيبقى صالحاً للتعبير عنه في القرن الحادي والعشرين.

ليس غريباً، إذاً، أن يخشى كثير من سكان الموصل بطش ميليشيات «الحشد» التي تشارك في احتفالات النصر، ويخافوا في الوقت نفسه أن يعاود الإرهابيون الهجوم بوسائل أخرى في دورة عنف مفتوحة يُحركها انتقام أعمى متبادل في واقع بعيد من النصر وخطابه وحفلاته. لم يتلقوا بعد رسالة واضحة تُطمئنهم إلى أن التحولات التي تبدو إيجابية في مواقف بعض القوى الشيعية في الأيام الماضية يمكن أن تضع حداً لمعاناتهم وتهميشهم، سواء مغادرة السيد عمار الحكيم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الذي أقيم على أساس مذهبي، وتأسيسه «تيار الحكمة» على أساس وطني، أو زيارة السيد مقتدى الصدر إلى السعودية في إطار الاتجاه الذي بدأه رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي لتحقيق توازن في علاقات العراق الإقليمية.

وإلى أن تبلغهم رسالة كهذه، قد يظل النصر عندهم صورةً لا يرونها في الواقع، ما داموا محرومين من حقوق المواطنة، ومغلوبين على أمرهم لا يدرون ما ينتظرهم في مدينة يبدو أن إعادة إعمارها أقل مشاكلها صعوبة.

ومع أن دحر الإرهاب في أية منطقة سيطر عليها، أو تسلل إليها، مهم بذاته، يظل النصر عليه مرهوناً بإصلاح الاختلالات السياسية والاجتماعية التي تدفع الأفراد إلى الاحتماء بانتماءاتهم الأولية حين يشتد خوفهم من بطش سلطة الدولة، ويتعذر التفاعل الطبيعي العابر لهذه الانتماءات بينهم، ويزداد الميل إلى الانغلاق والتعصب، وصولاً إلى التطرف.

وحين تتفاقم تداعيات الاختلالات السياسية والاجتماعية على هذا النحو، يستطيع بضع مئات من الإرهابيين الاستيلاء على مدينة كبيرة بحجم الموصل بعد هروب أكثر من 40 ألفاً من الجنود، الذين لم يدافعوا عنها لأسباب قد يكون أحدها أنهم لم يشعروا بصلة تربطهم بسكانها، مثلهم في ذلك مثل كل من يطغي انتماؤه المذهبي أو العرقي في غياب مقومات المواطنة. ولا تصح الاستهانة، والحال هكذا، بإعلان قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، أن «الجيش العراقي في طريقه لأن يصبح عقائدياً»، ولا بتوقيت هذا الإعلان الذي تزامن مع إطلاق خطاب النصر في معركة الموصل.

وهكذا، لم يفكر المحتفلون بالنصر في كل مرة، منذ 1956، في ما ينبغي تغييره وإصلاحه لتحقيق نصر حقيقي يبدأ بإصلاحات تحقق انفتاحاً وتحديثاً وتنميةً وتشجيعاً للابتكار والتجديد، وتحريراً للمجال العام، وتوسيعاً للمشاركة السياسية والمجتمعية. ومن مثل هذه الإصلاحات، يظل خطاب النصر تعبيراً عن صورة لا أصل لها في واقع منكوب بتداعيات اختلالات سياسية واجتماعية متراكمة.

ولا غرابة، إذاً، في عدم شعور كثيرين من سكان الموصل بنصر كبير يُحتفل به، مثلما كانت حال سكان مدن وبلدان عربية عدة منذ 1956. لكن الغريب ألا تستوعب نظم حكم متوالية على مدى ستة عقود أن النصر الحقيقي يبدأ بإصلاحات توفر المقومات اللازمة لدولة المواطنة الحقة التي يُعد وجودها بحد ذاته نصراً لكل مواطن فيها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة