الخميس ٢٥ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيار ١٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
استقلال القضاء ومأزق القومية ما بعد الكولونيالية - طارق أبو العينين
حالة من الجدل صاحبت تصديق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على تعديلات البرلمان لقانون السلطة القضائية، انتهت بإعلان مجلس نادي القضاة الطعن على القانون بصيغته الجديدة نظراً لعدم دستوريته، وذلك انطلاقاً من أن توسيع صلاحيات الرئيس في اختيار رؤساء الهيئات القضائية ينسف مبدأي استقلال القضاء والفصل بين السلطات. ولعل الإشكالية العميقة هنا تتعلق بمدى إمكان قياس الممارسة القانونية والتشريعية للسلطة السياسية في مصر بمقياس فلسفة العقد الاجتماعي التي صاحبت قيام النظام الجمهوري والدولة القومية في سياقهما الديموقراطي، كما تتعلق أيضاً بمدى الارتباط بين تلك الأزمة ذات الطبيعة الدستورية والقانونية وبين الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي والخانق.

فمن ناحية قياس الممارسة القانونية والتشريعية، إن النظام الجمهوري والدولة القومية منذ ثورة 1952 وحتى الآن ينطويان على تناقض بنيوي، في إطار الممارسة على الأرض، إذ إن هناك فارقاً أساسياً بين القومية بمعناها الليبرالي الكلاسيكي والقومية ما بعد الكولونيالية التي سادت العالم العربي إبان حقبة الاستقلال الوطني وميلاد النظام الجمهوري في الخمسينات والستينات، والتي يجرى استدعاؤها الآن في مصر تبريراً للردة عن الديموقراطية والعصف بالحريات وبمجمل المبادئ الدستورية.

فالقومية الليبرالية، وفق وصف المفكر السياسي البريطاني أندروا هيود في كتابه «مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية»، تعود جذورها إلى الثورة الفرنسية، ومن ثم فهي تُجسد الكثير من قيمها. كما قامت على المبادئ القومية الليبرالية النقاط الـ14 التي اقترحها الرئيس الأميركي ودرو ويلسون كأساس لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، على اعتبار أن الأوتوقراطيات العسكرية كانت السبب في نشوبها، بعكس القوميات الليبرالية التي تحترم حقوق جيرانها. ولذلك نقلت الليبرالية الكلاسيكية إيمانها بالحرية من الحيز الفردي الضيق إلى الحيز الأممي القومي الأوسع، ومن ثم كانت القومية الليبرالية قوة مُحررة بمعنيين، أولهما أنها تعارض كل أشكال السيطرة والقمع الأجنبيين، وثانيهما أنها تقف وراء فكرة الحكم الذاتي والذي ينعكس في الممارسة إيماناً بمبدأي الدستورية والتمثيل.

أما القومية ما بعد الكولونيالية فارتبط بزوغها بسعي أمم ومجتمعات العالم الثالث في آسيا وأفريقيا بالحصول على استقلالها السياسي. وهو مسعى ارتبط بوعي تلك الأمم بمدى تخلفها اقتصادياً وتبعيتها للدول الصناعية الكبرى. ومن ثم فإن هذا التوجه المضاد للكولونيالية كان معبّراً عن رغبة تلك الأمم في تحقيق التحرر القومي على الصعيدين السياسي والاقتصادي. لذلك اعتنق معظم زعماء العالم الثالث خلال تلك الحقبة شكلاً من أشكال الاشتراكية يتراوح بين الأفكار السلمية المعتدلة، كحالة نهرو وغاندي في الهند، أو الماركسية الثورية كحالة فيديل كاسترو في كوبا أو ماوتسي تونغ في الصين، أو هوشي منه في فيتنام.

فهذا الفارق بين القومية الليبرالية والقومية ما بعد الكولونيالية يعكس بكل تأكيد مدى الأزمة المزدوجة التي تعانيها الثانية الآن في مصر.

فالقومية ما بعد الكولونيالية عندما شهدت بدايتها الجنينية في مصر إبان ثورة يوليو 1952 انطوت بطبيعة الحال على عصف بمبدأي الدستورية والتمثيل اللذين كرستهما القومية الليبرالية بفعل دوران التجربة الناصرية في فلك الاشتراكية، شأنها شأن بقية القوميات ما بعد الكولونيالية، ما فرض سياقاً أيديولوجياً مناقضاً للسياق الدستوري والقانوني الليبرالي التقليدي خلَق بدوره غطاءً سياسياً لتدخل الرئيس في الشأن القضائي، ومن ثم الإخلال بمبدأي استقلال القضاء والفصل بين السلطات اللذين يفترض أنهما مبدآن دستوريان.

فوجود الدستور وقتها لم يحل مثلاً دون قيام الرئيس عبد الناصر بفصل القضاة تعسفياً بناء على تقارير أمنية في ما عرف بمذبحة القضاء عام 1969. فإذا كانت الإشكالية التاريخية للقومية ما بعد الكولونيالية تتمثل في افتقاد ممارساتها للشرعية الدستورية والقانونية بفعل هذا الغطاء السياسي الثوري الاشتراكي، فإن إشكاليتها الآنية تتمثل في أن افتقادها هذا الغطاء ذاته هو ما يجعل أزمة تعديل قانون السلطة القضائية في مصر تتلامس وتتقاطع مع مجمل أزمات الاقتصاد والمجتمع. ذاك أن العصف بمبدأي استقلال القضاء والفصل بين السلطات يتم في ظل انتهاج سياسات رأسمالية ذات طابع راديكالي كإلغاء الدعم وتعويم العملة وتطبيق باقي الإجراءات التقشفية التي طلبها صندوق النقد لمنح مصر القرض الدولاري. ومن ثم، فإن هذا الاستدعاء المُجتزأ للسياق الناصري في ما يتعلق بالإخلال بمبدأي استقلال القضاء والفصل بين السلطات، من دون تأكيد مبدأ التحرر القومي على الصعيدين السياسي والاقتصادي ومن دون تحقيق العدالة الاجتماعية، سينقل مأزق القومية ما بعد الكولونيالية في مصر من حيز افتقاد إجراءاتها القانونية البحتة للشرعية الدستورية والقانونية، إلى حيز تحولها إلى أداة لتدشين أوتوقراطية عسكرية تقليدية كالتي كانت سائدة في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى.
 

* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة