الجمعه ١٩ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيار ٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الليبرالية الجديدة نقيض حرية السوق وكرامة الإنسان - محمد الحدّاد
كان عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو قد نشر سنة 1998 نصّاً مختزلاً وثريّاً عنوانه «جوهر الليبرالية الجديدة»، عرّف فيه هذه الأيديولوجيا المضمرة بأنّها برنامج لتدمير البنى الجماعيّة القادرة على عرقلة منطق «السوق الخالصة»، وبيّن كيف أنّ عولمة الأسواق المالية مع التقدّم الهائل في وسائل التواصل (الإنترنت...) أدّت إلى حركة غير مسبوقة في التاريخ لرؤوس الأموال وبحث جنوني عن تحقيق أكبر الأرباح في أقصر وقت ممكن، وأصبحت المؤسسة الاقتصادية تعمل تحت ضغط الأسواق والطلبات المشتطّة للمساهمين، بما فتح المجال لعالم دارويني يتصارع فيه الكلّ ضدّ الكلّ، على حدّ عبارته.

وقد نبّه بورديو إلى أن القوى التي تحاول مقاومة هذا العالم الرهيب هي تلك التي تسعى إلى «المحافظة» من دون أن تكون بالضرورة قوى محافظة، متنبئاً بأن تصاعد المنطق الجنوني للنيوليبرالية سيوازيه انحراف المحافظة إلى مشاريع تدميرية بدورها.

أضيف إلى تحليل بورديو مسألتين مهمتين. أولاهما أن منطق الضغط الجنوني على المؤسسة الاقتصادية بلغ حدّ أن العمّال الذين كانوا يعتبرون في السابق مكوّناً من مكوناتها أصبحوا يعدّون مجرّد أرقام في معاملاتها، كما هو شأن السلع عندما تشرى وتباع، ويمكن التخلّص منهم لتحقيق أرباح أفضل حتى لو كانت المؤسسات رابحة بفضل جهودهم. وإذا ما كان تسريح العمال في حالات الخسارة أمراً قديماً في التاريخ، فإنّ الجديد مع الثورة اليمينية الحالية هو تسريحهم في حالات الربح أيضاً، وقد تغيّرت القوانين للسماح بذلك بعلّة تحقيق المرونة في «سوق العمل». ويجدر تأكيد شراسة هذه العبارة الأخيرة ولا أخلاقيتها، لأنّ العمل حاجة إنسانية وليست بضاعة للتسويق، والمجتمعات الحديثة التي دمّرت البنى التقليدية للتضامن تحكم على الإنسان بالإعدام إذا ما قضت عليه بالبطالة المطوّلة.

والبطالة تدمّر اليوم طاقات الشباب الذين يبدأون حياتهم في اليأس والإحباط بسبب قلّة مواطن العمل، وتدمّر طاقات الكهول الذين يعيشون رعب الطرد حتى لو أتقنوا عملهم وتفانوا في خدمة مؤسستهم. لقد أصبح الاقتصاد عالم ذئاب.

لكن الأدهى من ذلك أن حال الدول أصبحت أيضاً مثل حال المؤسسات الاقتصادية، فهي تتنافس أيضاً لاستقطاب رؤوس الأموال، وتقدم التنازل تلو الآخر لتكوين أكثر إغراء وجاذبية، وتخضع بدورها لمنطق الربحية السريعة التي تجعلها تحت رحمة أصحاب الأموال، فتحوّل مواطنيها إلى «قوّة عمال» مطروحة في السوق للبيع والشراء، وتتخلى عن سيادتها في التشريع بالخضوع إلى القوانين الدولية المصاغة لمصلحة رأس المال ولعمليات التحكيم، ولبرامج صندوق النقد الدولي وهلم جرّا.

ثانياً، أن منطق المحافظة لمقاومة هذا العالم الرهيب يمكن أن يكون مفيداً وناجعاً في حالة واحدة، وهي أن يكون قوّة دفع لمجموعة بشرية واضحة المعالم، لا أن يصبح عامل تهديم داخل المجموعة، وهذا في رأينا ما يميز «المحافظة الدينية» التي يمكن أن تستعمل في هذه المقاومة مثلما استعملت سابقاً ضدّ الاستعمار، وبين تسييس الأديان الذي يؤدي إلى الطائفية والعودة إلى صراعات الماضي وحجب رهانات الحاضر بقضايا عقائديّة وسلوكية، بما يترتّب عليه مزيداً من إضعاف المجموعة المعنية أمام هول الضغوط الاقتصادية العالمية، وليس العكس. تقدم تجربة مهاتير محمد في ماليزيا مثلاً نموذجاً لتوظيف المحافظة الدينية ضد تغوّل رأس المال العالمي، ولا علاقة لها بالإسلام السياسي بل هي واجهته على مدى عقود.

بيد أنّ اشتداد الأزمات العالمية قد يقلّص الحدود بين هذا وذاك في تجارب أخرى من القبيل نفسه، ويهدّد بنتائج قد تكون عكسية. من المهم أن نؤكّد أن الشعور الديني، وهو بالضرورة شعور محافظ، ينبغي أن يساهم اليوم في أنسنة العولمة وإنقاذ الإنسانية وليس العكس. ومقولة الإصلاح الديني تمثّل المدخل السليم للمحافظة على الشعور الديني والتكيف الإيجابي مع الحضارة العالمية في الآن ذاته. ويترتّب على اختلال أحد طرفي المعادلة إضعاف الذات واستبدال أسباب القوة الحقيقية بنزوات العنف العابرة والفاشلة.

وفي المستوى الاقتصادي، يتجسّد التكيف الإيجابي مع الحضارة العالمية في الدفاع عن حرية الاقتصاد بالمعنى الحقيقي، أي رفض الهيمنة والاحتكارات والتصدي للمضاربة والسمسرة، ودعم اقتصاد عالمي قائم على إنتاج ثورات حقيقية، وضمان منافسة نزيهة بين الدول والمؤسسات وثقافية في الأسواق المعاملات الحالية تقلص الفساد المالي وتعيد لإرادة الشعوب اعتبارها في التشريعات الاقتصادية المحلية والعالمية.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة