السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٥, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الاغتراب الإنساني في الكهف الإلكتروني - صلاح سالم
كانت الثورة المعرفية والتكنولوجية بشرتنا بعالم جديد رائع، يستطيع الإنسان فيه أن يصبح كوكبياً، قادراً على الاستمتاع بدفء التواصل مع باقي أفراد القرية العالمية‏. غير أن تلك الفرضية تبدو متسرعة إن لم تكن خاطئة، حيث الفارق يظل شاسعاً بين النزعة الاتصالية كمعطى تكنولوجي يسمح بتبادل رسائل إعلامية ومعلوماتية، ولكن عبر وسائل تنتمي في النهاية إلى عالم الآلة‏‏. وبين النزعة التواصلية كنمط تفاعل‏ إنساني يقوم على الحميمية والمباشرة. بل يمكننا القول إن هيمنة الاتصالية التكنولوجية إنما تدفع‏ إلى إفقار التواصل الإنساني تدريجياً، حيث غيرت الشبكة العنقودية تدريجياً سلوكيات أغلب البشر وهم بصدد ممارسة العمل والتعليم والترفيه وغيرها من النشاطات الإنسانية، على نحو دفع كثيرين إلى الاندماج في عوالم افتراضية متخيلة، تحل محل عوالمهم الواقعية، ولكن من دون أن تقوم بدورها في إشباع الحاجات الإنسانية إلى الانتماء والتعاطف، وغيرهما من مضادات الاغتراب، حيث يتحول الفرد تدريجياً من مجرد ذات إنسانية تتفاعل مع غيرها لتكوين بنية اجتماعية‏،‏ إلى كونه بنية مغلقة على نفسها، نازعة دوماً إلى تكريس استقلاليتها.

دفعت الثورة الصناعية بالأسرة الممتدة، الموروثة عن العصر الزراعي، إلى غياهب التاريخ، فيما تقدمت الأسرة النووية، كحامل اجتماعي للروح الحديثة. أما الثورة المعرفية فصارت تدفع بهذه الأسرة النووية إلى مصير مجهول، مفسحة المجال لما يمكن تسميته بـ «الأسرة الإلكترونية» القائمة على الفرد نفسه وعدته الاتصالية. وبينما كان التلفزيون، رمز عصر الصناعة - الحداثة، هو الذي يشكل محور اهتمام الأسرة النووية، القادر على حجز أعضائها في مقاعدهم أمام مباراة مثيرة لكرة القدم يتشاركون في تشجيع أحد طرفيها، أو عمل درامي جذاب يتبادلون الحديث حول حوادثه والقضايا التي يثيرها، فيتولد لدى الجميع مساحة اهتمام مشترك، لعله التعبير التلقائي عن روح الأسرة، فإن الأسرة الإلكترونية خضعت تدريجياً لمنطق عصر ما بعد الصناعة - الحداثة الذي خلق تحديات جديدة نالت من تماسكها حتى فقدت مركزيتها في جل المجتمعات الإنسانية.

ورغم أن التلفزيون، كوسيط تكنولوجي، قد مثل تحدياً للمجتمع الحديث، لا يزال موجوداً وفاعلاً، إلا أنه خضع لمنطق العصر الفضائي حيث بلغ تعدد قنواته - رسائله حداً لم يعد ممكناً معه أن يتفق طرفان فقط على أولوية رسالة واحدة قادرة على استقطاب اهتمامهم، إلا في حالات بالغة الاستثنائية، كالمباريات الكبرى لكرة القدم مثلاً. وهكذا لم يعد هناك تلفزيون «الأسرة - المنزل» القادر على تجميع أعضائها، بل صار هناك تلفزيون «الحجرة - الشخص» الذي يتمكن معه الإنسان من إحكام بابه على نفسه، والذوبان الكامل في فرديته، وهو يتلقى رسالته المفضلة. وأما الوسائط الجديدة، وعلى رأسها الهاتف المحمول وجهاز الكمبيوتر، فقد ساعدت على تعميق اغتراب الإنسان عمن يجاورونه في البيت نفسه، وذلك عبر عملية تفاعل جغرافي مزدوجة التأثير: فمن ناحية، تقوم تلك الوسائط بتكسير جغرافيا الكون، ليصبح الفرد في استراليا والولايات المتحدة قريباً جداً، لا يبعد عن الكائن الاتصالي سوى تلك المسافة الممتدة مباشرة بين عينيه وأذنيه وسطح شاشة الكمبيوتر أو سماعة جهاز التلفون، ليصير العالم مجرد حجرة وليس فقط قرية.

ومن ناحية أخرى، تقوم الوسائط نفسها بتفجير الجسور وتوسيع الهوة مع الأخ والأخت، أو الأب والأم، أو الزوج - الزوجة في الغرفة المجاورة ليصير عضو الأسرة الآخر بعيداً جداً، غير موضع للاكتراث قياساً إلى الطرف المحاور على شاشات الكمبيوتر، أو عبر أثير المحمول.

ولكن، هل يعني ذلك أن الإنسان صار قادراً على استبدال انتماء قريب، بآخر بعيد، ومن ثم فهي حركة تواصل كوني تتسم بالديموقراطية والمرونة معاً، يحل فيها الصديق محل الشقيق، أو الصديق البعيد محل القريب؟... الإجابة الغالبة، للأسف، هي النفي، لأن مجرد وقوع حادث حزين من قبيل دخول الفرد إلى مشفى، أو حدث سعيد يحتاج معه الإنسان إلى مشاركة الآخرين، سوف يكشف للإنسان تلقائياً أنه قد عوّل كثيراً على عالم تمثيلي - وهمي يحوي الكثير من الخيال، والقليل من الحقيقة، إلى درجة قد يسقط معها فريسة للشعور بالوحدة القاتلة والخواء الكئيب. فليس غريباً إذاً أن تتكاثر حالات الانتحار في المجتمعات الأكثر عصرية‏، وأن تتزايد حالات الطلاق أو الانفصال العاطفي في جل المجتمعات، كنتيجة مباشرة للتراجع الكبير في قيمة الأسرة، وتزايد الرغبة في العزلة، ونمو الشعور بالقدرة على الاستغناء، في إطار مجتمع نفعي وهمي يقوم على الفردانية والآلية، كما يؤسس لاغتراب إنساني عميق.

تدفع مشاعر الاغتراب هذا الكائن الإنساني إلى التركيز على هويته الفردية، ما يقوده في الأغلب إلى الالتصاق بمكوناتها الأولية بخاصة المعتقدات الدينية، ليس فقط ليملأ الفراغ الوجداني الشاسع الذي خلَّفه رحيل أو ذبول المجتمع الكلاسيكي بعلاقاته الحميمة، وإنما بالأساس بحثاً عن جذور وملامح للتميز تحت ضغوط عمليات النمذجة والقولبة، والعلاقات الكمية والتماثلات الشكلية المحيطة التي يفرزها مركز واحد يصير منظماً لمجمل النشاط الإنساني في الفضاء الكوني المتمدد. ومن ثم، انفجر الإحياء الديني في كل مكان تقريباً، ليس ذلك الإحياء الروحاني الذي كان سلفاً، ولا الإيمان التقليدي الذي ساد زمناً، بل الإحياء العنيف الناجم عن شعور المتدينين بالهزيمة والرغبة في الثأر، والطموح إلى استعادة أرض مغتصبة كانت للدين قبل أن يُطرد منها، ولو اضطروا إلى حرقها. ولعل ذلك يفسر، ولو جزئياً، جاذبية تنظيم «داعش»، أبرز نماذج الإرهاب المعولم، للشباب في المجتمعات الأوروبية، ليس فقط أولئك المهاجرين المتحدرين من أصول عربية إسلامية، بل وأيضاً الذين تتجذر أصولهم في المجتمعات الغربية؛ ممن ضعفت قدرتهم على التكيف مع المجتمع ما بعد الحديث، فوقعوا أسرى لأزمة معنى جعلت حياتهم بلا مغزى، ودفعتهم للبحث عن الخلاص منها ولو على نحو مأسوي.
 

* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة