الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آذار ١٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
تونس: الإنجازات وتحدّيات الفساد - محمد الحدّاد
منذ سقوط النظام السابق، خاضت تونس معارك مصيرية حقّقت خلالها انتصارات نسبية لكنها مهمة بالمقارنة بما حصل في بلدان الثورات العربية الأخرى. كانت معركتها الأولى ضدّ الانهيار والفوضى، فاستطاعت أن تستعيد الاستقرار عبر إرساء مسار توافقي لكتابة دستور جديد وإنشاء مؤسسات سياسية مختلفة وتنظيم انتخابات مقبولة، وقد تحقّق المنشود على رغم عثرات كثيرة وخطيرة، ونجح التونسيون في تنظيم موعدين انتخابيين ناجحين (تشرين الأول/أكتوبر 2011 وتشرين الأول 2014) انتقلت السلطة خلالهما مرتين من تيار سياسي إلى خصمه من دون عنف.

ثم كانت المعركة الثانية ضدّ الإرهاب الذي استفحل بسبب الأخطاء القاتلة التي حصلت في عهد حكومة «الترويكا» بزعامة حركة «النهضة»، لكن عملية الاعتداء على السفارة الأميركية (أيلول/سبتمبر 2012) دفعت هذه الحركة إلى مراجعة جذرية لتقييماتها وفكّ ارتباطاتها المريبة ببعض المجموعات العنيفة، توقياً من ردود أفعال أميركية ضدّها، ونشأ بذلك توافق وطني ضدّ الإرهاب ما زال حاضراً وقويّاً إلى اليوم، يضمّ كلّ الطيف السياسي الفاعل. ومع أنّ هذا الإجماع لم يحل بعد ذلك دون وقوع عمليات إرهابية عدة، أغلبها لم تتضح حقائقه إلى اليوم، فإن التونسيين يتنفسون الصعداء الآن، وقد أمضوا سنة كاملة بلا إرهاب، منذ آخر عملياته التي استهدفت إقامة إمارة داعشية في مدينة بنقردان على الحدود مع ليبيا (آذار/مارس 2016).

لكن ثمة معركة أخرى صامتة وخطيرة يبدو أنها ستكون أمّ المعارك، وتبدو ملامح الانتصار فيها قاتمة حتى الآن. إنها المعركة ضدّ الفساد المستشري بصفة مخيفة في مفاصل الدولة كما في عمق المجتمع. ومن المفارقات أن تقوم ثورة ضدّ الفساد ثم يستفحل بأكثر بكثير مما كان عليه في السابق. بل إنّ الفساد كان في العهد السابق «منظماً» ومحصوراً في قطاعات محدّدة، وكان الشعب عاجزاً عن إدانته بسبب الديكتاتورية، لكنه عالم حقّ العلم بآلياته وبالمستفيدين منه. أما في عهد الثورة فأصبحت الحرية مطلقة في إدانة الفساد لكن لم يعد يُعلم على وجه الدقة آلياته وأسبابه والمتورطون فيه. وترتب على اختلاط الأمور أن أصبح كلّ شيء يُرى على أنه فساد، حتى توقفت مشاريع ومبادرات اقتصادية مهمة وفضّل مسؤولون الجمود على الفعل توقياً للوقوع في فخاخ الفساد. وهذا بينما يواصل محترفو الفساد إجرامهم من دون رادع، مطمئنين إلى أنّ كثرة الحديث والبرامج والوعود والهيئات المعلنة ليست إلا من قبيل ذرّ الرماد في العيون ولن تنتهي بمحاسبتهم أو معاقبتهم.

ولقد كادت تعصف أخيراً بالحكومة، ولم يمض على تشكيلها ستة أشهر، استقالة أحد أعضائها البارزين وكشفه علناً عن ملفات فساد تستر عليها رئيس الحكومة، وفق زعمه. وجاء ردّ الفعل عكسياً ومتهماً الرئيس المستقيل بالعجز عن معالجة تلك الملفات، وهو الوزير المكلف في الحكومة بمقاومة الفساد. وستنتهي هذه الحادثة كما انتهت كثيرات قبلها، ولن تعرف الحقيقة من التضليل والمبادئ من الصراعات الشخصية.

إنّ المعركة ضدّ الفساد تطلب توضيح المفهوم أولاً وتوحيد الهيئات المتدخلة ثانياً، والابتعاد من التوظيف السياسي للقضية ثالثاً، وهي شروط غائبة. وكانت قد تشكلت بعد الثورة مباشرة هيئة لمقاومة الفساد نشرت تقريراً ضخماً يوثّق بالأرقام والحروف الأولى للأسماء وقائع الفساد الكبرى، لكن نقيصة التقرير أنه تستّر على بعض القضايا التي تورّط فيها فاسدون أصبحوا مقربين آنذاك من السلطة الجديدة. فكان المنطق يفترض أن يتواصل قيام الهيئة مع استكمال تقريرها، لكن ما حدث في عهد رئاسة الدكتور منصف المرزوقي وحكومة «الترويكا» بزعامة حركة «النهضة» أنّ التقرير قُبر والهيئة اختفت ورئيسها، وهو أستاذ قانون مشهور، توفّي ولم يحضر جنازته مسؤول حكومي.

الواقع أنّ الأحزاب كلها، حكماً ومعارضة، كانت تحتاج إلى تمويلات ضخمة وقد وجدت في ابتزاز رجال الأعمال المتورطين طريقة جيدة للاستفادة من تبرعاتهم مقابل التستر على أعمالهم ومسؤولياتهم. هكذا أصبح الفساد في صلب العملية السياسية ذاتها. ولم تكن مصادفة أنّ التحالف الجديد المنبثق بعد انتخابات 2014 بين «النهضة» و «نداء تونس» قام على اتفاق ضمني لتجاوز الماضي، وتطبيق مبدأ «عفا الله عما سلف». لكنّ ذلك لم يحلّ المشكلة، فآليات الفساد تواصلت وإن تغيرت أحياناً الأسماء، وتداخلت قضايا الماضي بقضايا الحاضر، وضعف إيمان الناس بتوفّر إرادة سياسية حقيقة لمحاربة الفساد، واختلط صحيح الأخبار بالإشاعة والتهويل، وأصبح وقع الفساد ثقيلاً على الاقتصاد التونسي المنهك.

أمام تضخم العجز التجاري وتقلص إمكانات الدين الخارجي، تطلب الحكومة من النقابات العمالية القبول بإجراءات تقشفية لإنقاذ الوضع، وتجيب النقابات بأنّ الأولى بالحكومة أن توفر مداخيل مالية جديدة، باسترجاع الأموال العامة من الفاسدين بدل إثقال كاهل الشعب المتضرّر من سوء الأحوال الاقتصادية. وبسبب حوار الصم هذا، المتواصل منذ سنوات، تنعدم فرص التقدّم ولو بخطوات صغيرة في الإصلاح الاقتصادي.

ولا تبدو في الأفق القريب بوادر انفراج، فالاقتراب من المواعيد الانتخابية (الانتخابات البلدية في نهاية السنة الحالية ثم الاستعداد للانتخابات النيابية والرئاسية في نهاية السنة المقبلة)، ستجعل قضية الفساد قضية محورية في الجدل السياسي العام، لكنها ستقلّص الإمكانات الحقيقية لمحاربته. فالفترات الانتخابية ليست بالتأكيد الفترات المناسبة لذلك. وعلى هذا الأساس، يمكن أن ينعم كبار الفاسدين بأيام سعيدة أمامهم، بينما قد تقدّم للرأي العام ملفات صغيرة وهامشية في الفساد، أو قضايا جانبية من العهد السابق لم يعد لها وقع في الحاضر، للإيهام بإحراز بعض التقدّم في الملف، وتصفية بعض الحسابات الشخصية أحيانا.

إنها في الحقيقة مجرّد مناورات كاذبة وليست حرباً حقيقية ضدّ الفساد كما كان يجب أن تكون.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة