الأثنين ٦ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون الأول ٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
القتل كحدث عادي في عالم يتردى سياسياً وثقافياً - وحيد عبد المجيد
كم تبدو مثيرة مواقف الدول الغربية تجاه مذابح حلب. لم يكن متصوراً أن نشهد هذه المذابح بعد التطور الذي حدث في القانون الدولي في التسعينات وأُضيفت بموجبه قواعد إنسانية بدت حينها مُبشّرة. تحدث بعض رؤساء هذه الدول وممثلوها في الأمم المتحدة عن مذابح وجرائم ضد الإنسانية. وشاركهم مسؤولون أمميون التحذير من كوارث إنسانية مترتبة على محاصرة حلب، ثم استباحتها.

لكن هذا كله يبقى كلاماً من نوع لا يقوله المرء ويمضي إلى حال سبيله، ثم يعود فيكرره، إلا في حالتين. الأولى انفصام سياسي حاد يؤدي إلى انتفاء الصلة بين ما يقوله المصاب به وما يفعله، فيبدو كلامه عن واقع دموي كما لو أنه حديث عن عمل درامي تراجيدي مسلسل يتابع تطوراته ويُعلّق عليـــها، مثلما يفعل مئات الملايين الذين يشاهدون الدراما الطويلة المتعددة الأجزاء. فقد يتفاعلون معــــها، وربما ينفعلون بها، ثم ينشغل كل منهم بأموره الخاصة إلى أن يحل موعد الحلقة التالية. وحيــــن يشتــــد هـــذا الانفصــام لا يُستمع لاستغاثات العاملين فى مجال الإغاثة، فلا يجدون مُغيثاً.

والثانية خوف مرضي (فوبيا) من الإرهاب يؤدي إلى سلوك يفاقم خطره، ويزيده حدة وشراسة. فقد ثبت خلال العقدين الأخيرين بصفة خاصة أن القوة العمياء التي تقتل وتدمر على المشاع لا تقضي على الإرهاب، بل تُزوّده بمدد وتُيسّر له اختراق بيئات مجتمعية يكثر فيها التعصب والتشدد أصلاً، فيُعاد إنتاجه في صورة أكثر عنفاً وإجراماً. وتؤدي هذه الفوبيا إلى استهانة مدهشة بعوامل أدت إلى ظهور «داعش»، ويمكن أن يُنتج مثلها ما يتراكم الآن تنظيمات أكثر توحشاً.

فقد أصبحت مواجهة الإرهاب شعاراً سهلاً يُرفع لتبرير جرائم ومذابح مرعبة. أجادت روسيا وإيران استغلال خطر الإرهاب لترسيخ نفوذ كل منهما على أشلاء القتلى، واستعذبتا رائحة الموت في مناطق دعمتا خنقها حصاراً ليموت جوعاً من لم تصبه حمم النار التي يصبها نظام حكم إرهابي عليها. ويبـــدو أنه كلــــما فاحت رائحة المــــوت، تأكـــد كل من «القيصر الجمهــوري» و«الشاه الإسلامي» أنه أصبح سيد الأرض المحروقة.

ولا تعترض الدول الغربية حتى الآن على ما تفعله روسيا وإيران، إلا عندما يتجاوز القتل مستوى معيناً فيُسبّب لها حرجاً. كما أنها باتت تُصدّق، بعد فترة إنكار جزئي، أن حاكماً مجرماً خرَّب بلده سياسياً، قبل أن يُدمّره عسكرياً، يمكن أن يحارب إرهاباً لم يصبح خطراً كبيراً إلا بسبب نظامه، وأنظمة مماثلة تمنع بطابعها تحقيق اندماج وطني يتطلب تفاعلاً وتعارفاً بين مكونات مجتمعية مختلفة في أجواء حرة.

وإذا كانت سياسات انتهجها مجرمون في بعض البلدان العربية بذرت بذور العنف على هذا النحو، فما بالنا بممارسات وحشية يشارك فيها مجرمون آخرون في المنطقة وخارجها، ويتفرج عليها من بشّروا العالم قبل ربع قرن بعصر جديد لا يصنع المجرمون فيه التاريخ.

ويزداد خطر توسع العنف والإرهاب في مرحلة تشهد ارتدادات سياسية وثقافية، إذ يتوسع الطغيان وتُظلم العقول، ويزداد من يرون القتل حدثاً عادياً، وينظرون إلى الخراب والدمار بوصفه تفصيلاً صغيراً في العلاقات الدولية الراهنة. ولنتأمل مثلاً قول المبعوث الدولي إلى سورية دي ميستورا في 25 الشهر الماضي إن «بوتين ليست لديه نية تدمير كامل لحلب»، ونسترجع معه تصريح مسؤول في البيت الأبيض قبله بأيام من أن أوباما بحث مع بوتين استمرار جهود وزيري خارجية البلدين في متابعة المبادرات لتخفيف معاناة الشعب السوري، لكي نعرف في أي عالم نعيش الآن.

وقد يبدو غريباً أن تحدث ممارسات تُذكّرنا بفظائع هولاكو بعد أكثر من قرنين على مقدمات عصر التنوير، وسبعة عقود على الحرب العالمية الثانية التي لم يعرف العالم منذ انتهائها قصفاً جويـــاً وحشياً يُدمّر الأخضر واليابس إلا في سورية الراهــــنة. غير أن هذا جزء من مسار التاريخ الذي لم يمض أبداً في اتجاه واحد أو خط صاعد، بل شهد تراجعات وانقطاعات. ولذلك لا يثير هذا الارتداد استغرابنا إلا حين نقع في أسر تصور خطي للتاريخ يقود إلى الانفصال عن الواقع والاتصال بعالم «اليوتوبيا». وهذا يفسر لماذا كانت صعبة، وستظل، محاولات أنسنة العالم منذ بواكيرها في عصر النهضة الأوروبي قبل نحو خمسة قرون.

لذلك ستستغرق عملية أنسنة العالم بمجمله، وليس في منطقتنا البائسة فقط، وقتاً طويلاً. ولن يكون الارتداد الراهن هو الأخير فيها، كما قد لا يكون الأسوأ على رغم هول الأنباء التي تتوالى عن صعود تيارات قومية متطرفة يقودها متعصبون معادون للنزعة الإنسانية في عدد متزايد من بلدان ما أُطلق عليه مجازاً «العالم الحر»، وازدياد رياح الموجة الشعبوية التي حصلت على دفعة قوية عبر فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.

لذلك تتجه الأنظار إلى فرنسا التي قد تسفر انتخاباتها الرئاسية المقررة في نيسان (ابريل) وأيار (مايو) 2017 عن فوز مرشحة شعبوية أخرى أو مرشح «شبه شعبوي» في ثاني أكبر دول الاتــحاد الأوروبي، بعد ما حصل في بريطانيا. وربما حل ذلك أيضاً في إيطاليا ضمن نتائج ستتداعى إذا نجحت حملة الشعبويين لرفض «إصلاحات» طرحها رئيس وزرائها في الاستفتاء الذي يجرى اليوم.

أما خارج «العالم الحر»، حيث ظلت الحداثة قشــــرة على السطــــح في الأغلب الأعم، فحدَّث ولا حرج عــن الارتدادات التي لا تقتصر على صعود طغاة جدد إلى السلطــــة في عدد متزايد من البلدان، بل تشمل إعادة الاعتـــــــبار لطغاة قدامى وتكريمهم مثل الفيليبيني فرديناند ماركوس الذي نُقل رفاته قبــــل أيام إلى «مقبرة الأبطال» في ظل مراسم عسكرية تكريمية، تنفيذاً لقرار طاغية جديد يفخر بقتل المشتبه باتّجارهم بالمخدرات أو تعاطيها أينما يوجدون من دون تحقيق أو استدلال أو محاكمة.

لكن هذا الارتداد الكبير بكل أهواله ليس إلا مرحلة لها ما بعدها سيصنعها شباب يقترع معظمهم في أميركا وأوروبا للديموقراطية، ويناضلون من أجلها في مناطق أخرى، ويرفضون الشعبوية التي تُغري أجيالاً أقدم ستصبح جزءاً من التاريخ حين يمتلك هؤلاء القدرة على تحديد اتجاهات المستقبل.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة