الثلثاء ٧ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ٢٢, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
عن الدين والدولة بين العرب والغرب - عادل يازجي
كثرت خلال هذا العام الأبحاث والدراسات والمقالات، التي تحاول قراءة أسباب الاستهداف الغربي للتطرف الإسلامي وحاضنته الاجتماعية، وطرحت تساؤلات مفصلية هي بحد ذاتها أجوبة تلم بالأسباب المتراكمة، قديمها وحديثها، ومما طرح من أسباب هذا الاستهداف تقصيرنا في تصويب علاقة الديني بالدنيوي، والتأسيس لرؤية جريئة تحدث قطيعة نهائية بين الدين والدولة.

هذا الموضوع سبق أن طرحه الحوار العربي الأوروبي (ندوة هامبورغ - نيسان - أبريل 1983) التي نظمت بالتعاون بين جامعة الدول العربية (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - أليكسو) والمجموعة الأوروبية، وشارك فيها من الجانب الأوروبي خمسة وخمسون مفكراً وباحثاً وسفيراً، ومن الجانب العربي أربعة وثلاثون مفكراً وباحثاً من مختلف الدول العربية.

في موضوع «العلاقة بين الديني والدنيوي لدى الطرفين العربي والأوروبي»، ركّزت الندوة نقاشها على «تقصير العرب» في تصويب هذه العلاقة، باعتبارها من الأسباب الفاعلة في تعميق الفجوة بين الطرفين، وجعلت الأوروبي يحافظ على هذه الفجوة (بعدم ردمها) حتى في عقله الباطن، كما يحدث حالياً في علاقته مع تركيا، وريبته من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، مع انها عضو في حلف الناتو، ونظامها علماني إنما ملتبس ومهدّد حالياً.

لم يكن الاستهداف موجوداً آنذاك بصيغته الحالية، العسكرية والفكرية والإعلامية، وكانت الفجوة في ظاهرها بين العرب والغرب، وباطنها بين «الإسلام العربي» والغرب، على رغم العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية العميقة الجذور بين معظم هذه الدول العربية - الإسلامية - والغرب، باستثناء العلاقات (الثقافية) الملتبسة، التي عالجتها بإسهاب تلك الندوة. حدّد الفريقان أسس المشكلة، واتفقا على ضرورة معالجتها في الدول العربية بعامة، وكان الجانب الغربي قد حلها جذرياً في بلاده: تصارع مع المعوقات الدينية، والسياسية، والاجتماعية، (والثقافية ايضاً)، وانتصر عليها، وحقّق أوروبا الحديثة، وصوّب علاقة الديني بالدنيوي، وأحدث قطيعة نهائية بين الدين والدولة. أما الجانب العربي فلم يتصارع مع أيّ من هذه المعوقات صراعاً حقيقياً فاعلاً، رسمياً أو شعبياً، على رغم أن غالبية المفكرين العرب يتصارعون معها منذ مطلع القرن العشرين، ولكنهم كانوا وما زالوا في واد، والحكومات في وادٍ آخر، بأدواتها التربوية، والثقافية، والإعلامية، والسياسية، لكن اندفاعهم خمد، ولم يتوقف كلياً، بل انخفض صوتهم بعد نجاح «الثورة الإسلامية» في إيران (1979)، وبروز المشكلة الأفغانية، التي انتصر فيها التطرف بالضربة القاضية على العلمانية، وأعاد اللحمة بين الديني والدنيوي، ومتّنها إلى درجة يصعب الفصل بينهما إلا بثورة شعبية على غرار الثورة الفرنسية (1789).

لم يكن واضحاً آنذاك أن العالم الغربي، لاسيما الولايات المتحدة الأميركية، هو الذي يصنع أعداءه، أو يساهم في صنعهم وفق حاجته ومصالحه الآنية لا الاستراتيجية، كما حدث باعتماده على التطرف الإسلامي في طرد السوفيات من أفغانستان، فدشن بعمله هذا مشروع التطرُّف ورعاه حتى اشتدّ عوده، فأطلق سهامه وإرهابه في كل اتجاه، حتى على صانعيه الذين ما فتئوا يدعمونه حتى الآن...؟

فـــي قـــراءة الأوروبـــيــين لأنفسهم ولعلمانيتهم، طرحوا أسئلة، وقدّموا إجابات تستند إلى وقائع ملموسة في ما حققوه عملياً (هل خلقت أوروبا حقاً بعد تحوّلها إلى الدنيوية حضارة مضادة للدين؟- إن إنجاز الدنيوية والانتقال إلى الحداثة في أوروبا - المسيحية - برز جزئياً كرد فعل ضد الحضارة المسيحية السابقة، ولكن بالاعتماد على أصول تلك الحضارة ومفاهيمها - المفكر الهولندي أنطوان فرغوت - من بحثه: الدين والعلمنة في أوروبا الحديثة وما بعد الحديثة) وبالتالي لم يتغير شيء في الأصول، ولم يمس الدين في ذاته، إنما أعيد تقويم ما نتج منه براغماتياً، ومن ثم انكفأ الديني إلى صومعته، وفكره، وثقافته، وامتطى السياسي صهوة الحكم، وحدثت القطيعة النهائية بين الدين والدولة، التي في ظلها ينعم الطرفان (الديني والدنيوي) بحضارة عنوانها (حقوق الإنسان)، تضمن لكل طرف حريته في مجالات اهتمامه، من دون أن يجتمعا في واحد يتسلم مقاليد السياسة والدين.

في الجانب العربي لم تتوقف القراءات النقدية للذات، منذ مطلع القرن الماضي، لكنها في مجال علاقة الدين بالدولة، والديني بالدنيوي، بقيت مجرد آراء فكرية، لم تشكّل بمجملها نظاماً معرفياً بديلاً أو مقابلاً لنظام راهن، حتى علمانية التيارات القومية كانت ملتبسة وسطحية، ظاهرها لا يمثل حقيقة تغلغل الديني في الدنيوي القومي، ما أدى إلى انكفاء الدنيوي أمام «تابوهات الفكر الديني» وليس أمام الدين نفسه، لذلك تبرز أهمية مصارحة الذات وخلخلة الأرضيات الثقافية الحاضنة للتطرف والإرهاب، ويصب في هذا التوجه مجمل الكتابات في تجديد الفكر الديني، والتفريق بين الخطاب الديني والدين، وإخضاع الخطاب للنقد والتقويم، ومحاولة بل محاولات تخليص الدين من الفكر الحامل له في آلاف الأطنان من المؤلفات التي حلت بديلاً عن الدين ذاته، وشكلت الأرضية المغلقة التي يصول التطرف فيها ويجول.

حتى الذين طرحوا العلمانية من الحكام العرب كانوا دنيويين تحت عباءة الديني، ومعظمهم شارك في ذاك الحوار الذي لم يكن حكومياً في شكل مباشر (بل من وراء حجاب)، فاقتصر على النقد، والتذكير، والتنبيه، ولم يتخذ قرارات تُلزم الطرفين (ولو نظرياً) بحلول عملية، لاسيما في مبدأ احترام حقوق الإنسان، وكان الجانب العربي (ومازال) هو المعرقل لاتخاذ هكذا قرارات تلزمه بما (لا يلزمه)، ولم يعد مجدياً الحديث عن ردم الفجوة بين الفريقين، فالمنابع لم تجف، بل تزداد غزارة داخل الوطن العربي وخارجه.

المشكلة حالياً أكثر تعقيداً، لاسيما بعد انقضاض التطرف على (ثورات الربيع العربي)، قبل ان تفصح عن أي من أسرارها، وتبيّن انه لا مكان للعقل والعقلانية فيما رشح عن هذا الربيع، وها نحن نترقب ديموقراطية هذه «الفوضى الخلاقة»، التي تُنافس ديموقراطية الحكومات الشمولية، فنتهجّى مأمناً للعيش في عالم غير عالمنا، وأرض غير أرضنا، وثقافة غير ثقافتنا، ونترك الوطن أطلالاً.

الآن والإرهــاب يــرتــدّ على صانعيه، ومصدّريــه، ومستـــورديـــه، وحاضنــيه، ومعارضيه، هل توضع العلاقة بين الدين والدولة قيد التداول فكرياً، وإجرائياً، في الدول العربية والإسلامية؟ وهل الحل السياسي للأزمة السورية (إذا تم) سيلحظ هذه المعضلة؟

للأسف، هناك مفكّرون إسلاميون ما زالوا يتساءلون: لماذا لا يفهم الغرب العالم الإسلامي؟ وكأن المشكلة ليست في العالم الإسلامي، بل في فهم الغرب له..! وهؤلاء يتجاهلون، أن استهداف الغرب للتطرُّف هو استهداف دفاعي، كان ثقافياً صرفاً في مواجهة ثقافة إلغاء الآخر، وتحوّل إلى القوة في مواجهة القوة المهاجمة، فهو يقرأ نفسه وخصمه حاضراً ومستقبلاً...!

* كاتب وإعلامي سوري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة