السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ١٢, ٢٠١٩
المصدر: جريدة الشرق الأوسط
لبنان: فينيقي... عثماني أم عربي؟ - حسام عيتاني
خفتت حدة السجالات التي أثارها كلام الرئيس اللبناني ميشال عون، عشية بدء الذكرى المئوية لإعلان «لبنان الكبير»، عن «إرهاب الدولة» الذي مارسه العثمانيون بحق لبنان واللبنانيين، وبردت قليلاً الأعصاب التي وتّرها تناول ماضٍ ما زال حياً، أكثر من اللازم، على ما يبدو.

تبرعُ بعض الشبان برفع صورة العلم التركي تتوسطه جمجمة على مدخل السفارة التركية في بيروت فاقم التوتر، وحض على استعادة تواريخ العلاقات اللبنانية - التركية، والمجازر التي ارتكبها الأتراك بحق الأرمن، وفتح ملف تعود بعض أوراقه إلى ما يزيد عن خمسمائة سنة، لكنها احتفظت بصلاحيتها في إثارة الأزمات والنعرات والحساسيات بين اللبنانيين وبين جيرانهم وجوارهم القريب والبعيد.

الجولة هذه من نبش الماضي، ضمت إلى جانب المحللين والكتاب والحزبيين من شتى المدارس التاريخية والطائفية والمذهبية، فئة جديدة هي فئة متوسطي الدخل الذين اكتشفوا في تركيا التي لا تطلب تأشيرة دخول من اللبنانيين، مكاناً للسياحة والتسوق و«التنفس» (بالمعنى الحرفي للكلمة بسبب تدهور حال البيئة في لبنان)، وشراء الدواء بكسور من الأثمان التي يفرضها المسيطرون على السوق اللبنانية. الفائدة المباشرة، وفي منأى عن الخلفيات الطائفية والسياسية، جعلت افتعال حادث دبلوماسي مع تركيا غير شعبي على الإطلاق، حيث تساهم الرحلات إلى تركيا في تخفيف وطأة الضيق الذي يحاصر اللبنانيين، خصوصاً فئاتهم محدودة الدخل من كل جانب. في المقابل، وجدت الحكومة التركية، في تصريحات عون وأفعال أنصاره، فرصة سانحة لتؤكد «ولايتها» الحصرية على الإرث العثماني شديد التنوع والتعقيد والتركيب، خصوصاً عندما يتصل بالسياسات التي اتبعت حيال الأقليات والطوائف غير المسلمة.

وعلى جاري العادة السائدة في هذه المنطقة من العالم باستحضار أحداث الماضي استحضاراً غير نقدي، ولا يقوم على المقارنة والدراسة، ولا يهدف إلى استخلاص نتائج وتطوير سياسات، استحضر الماضي العثماني في المشرق استحضاراً آداتياً للحشد والتعبئة واستنفار العصبيات المتورمة والملتهبة. لكن ثمة إشارات لا تخلو من أهمية حملتها «هيجاء» المواقف اللبنانية التي اندلعت بين المكونات المحلية. ففي الوقت الذي عاد فيه المسيحيون إلى الزمن الفينيقي وأسطورته على ما هو متوقع، برزت لدى المسلمين اللبنانيين، حسب ما يُفهم من مواقف السياسيين والمقالات الصحافية على الأقل، حميّة عثمانية مستجدة.

ومعلوم أن المسيحيين اللبنانيين يلجأون في كل مواجهة يفترضون فيها أن ثمة ما يهدد تميزهم واستثنائيتهم، إلى الهوية الفينيقية التي صيغت تلبية للحاجة إلى حفظ الهوية في المحيط العربي - الإسلامي (وكل هوية تُصنع وتصاغ لأهداف وحاجات واعية وظاهرة أو لا واعية ومبطنة، لكن هذا حديث آخر). وقليل الأهمية في هذا المقام كل نقاش يسعى إلى تفنيد أو تأكيد صحة النسب الفينيقي. فالجماعات، لا سيما المذعورة منها، تشكل هويتها وفق الظروف. وسواء كان سكان لبنان الحاليون من أصول فينيقية أو سريانية أو عربية أو تركية أو مزيج من كل هذه الأعراق، فلن يتغير الواقع اليومي الذي يعيشونه، الذي تشكل «الثقافة» بمعانيها المتعددة جزءاً من محركاته.

اللافت للانتباه، إذن، أن المسلمين اكتشفوا أن لديهم ما يدفعهم للدفاع عن الإرث العثماني. ويشكل هذا الاكتشاف خروجاً مزدوجاً من حالتين سابقتين: الأولى أن المسلمين اللبنانيين لم يكونوا من المتحمسين للعلاقة مع العثمانيين. بل ساهموا في أواخر عهد السلطنة في أعمال الجمعيات العربية السرية المناهضة لحكم «جمعية الاتحاد والترقي» - ويمكن هنا الحديث عن فارق بين العثمانيين التقليديين وبين من حلّ مكانهم من جماعة «تركيا الفتاة» - وقد سارع المسلمون إلى رفع العلم العربي على مبنى السراي في بيروت فور خروج القوات التركية منها. وجارى المسلمون اللبنانيون الرواية الرسمية عن ظلم نظام الحكم التركي وتخلفه وفساده كجزء من التسوية التاريخية التي قام لبنان عليها.

أما الحالة الثانية التي لم يعرها المسلمون اهتماماً، في الأيام الماضية، فهي الحالة العربية. ذاك أن كل استنفار فينيقي كان يقابله في العادة آخر عربي. فتحضر إنجازات الحضارة العربية - الإسلامية وانتصاراتها وفتوحاتها التي ينبغي أن تشحب أمام شمسها شمعة الحضارة الفينيقية. ولعل تفسير تغييب المعطى العربي عن السجال الأخير يرجع إلى تغير في تعريف المسلمين اللبنانيين لأنفسهم استناداً إلى الواقع العربي الحالي ومآسيه وتشرذم دوله والهوان الذي يلاقيه المواطن العربي في بلاده وفي خارجها. وانهيار الآيديولوجية القومية العربية الذي جاء كتعبير عن اختفاء النظام العربي السياسي، وتبخر أحلام الوحدة وتحرير فلسطين وغيرها من الشعارات التي رفعها العرب، يدفع اللبنانيين إلى البحث عن مرجعيات تاريخية وهوياتية صلبة تستطيع خوض الصراع ضد الآخرين. ولعل هذا ما يفسر تلك الحمية التي ميزت مواقف المسلمين اللبنانيين أخيراً.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة