منذ عام 1948 ورغم الضعف الشديد كانت المنطقة العربية المحيطة وامتداداتها تضخ النضالَ الوطني الفلسطيني بقدر ما من الحيوية السياسية التي يشكل تاريخها، أي هذه الحيوية، مسارا متواصلا من التراجع النوعي من محطة - هزيمة إلى أخرى.
تراجعت المدرسة الناصرية في إدارة الصراع العربي الاسرائيلي، رغم بعض المكاسب المنفردة الهامة التي حققتها الإدارة الساداتية باستعادة سيناء، مقابل الانسحاب من الصراع العام، ثم تراجعت المدرسة الفلسطينية في إدارة هذا الصراع رغم مكسب افتتاح دينامية فلسطينية عبر اتفاق أوسلو للعودة الفلسطينية أو الإياب الفلسطيني إلى داخل فلسطين للمرة الأولى بهذا الزخم منذ عام الخروج الفلسطيني الكبير أي 1948 وما تلاه من خروجات عام 1967 وما بعدها من سنوات الطرد التنكيلي الإسرائيلي الجزئي ولكن الطويل الأمد من الضفة وغزة حتى بدء تأثير المدرسة الإيرانية في التعامل مع هذا الصراع،. وهي المدرسة التي أتاحت دعم تيارات إسلامية أصولية ومنها المساهمة في نجاح حركة "حماس" في السيطرة المنفردة لأكثر من عشر سنوات على قطاع غزة دون أن تسفر حتى اليوم عن تغيير لصالح تقدم المشروع الفلسطيني لقيام دولة مستقلة رغم نجاح المدرسة الإيرانية الأكيد في لبنان، أي خارج فلسطين، في إيجاد حركة ممثلة بـ"حزب الله" الشيعي اللبناني أتاحت وبالتفاعل مع قرارات الشرعية الدولية استعادة الاجزاء المحتلة من لبنان. لكن هذه المدرسة الإيرانية وبصماتها في الصراع مع إسرائيل لم تستطع، مثل سابقتيها الناصرية والفلسطينية، وقبل عام 1948 الملكية والليبرالية العربية أن توقف تقدم المشروع الإسرائيلي في اختراق بل واحتلال الضفة والقطاع وبالتالي بقي تراجع المشروع الوطني الفلسطيني هو السمة السائدة والمتزايدة.
ثلاث مدارس والمشروع الفلسطيني يتراجع بعد تأسيس إسرائيل، حتى وصلنا إلى الحقبة الجديدة التي افتتحها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء التحضير العملي لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها.
في العمق هذه المرحلة الجديدة من تصاعد الاختلال النوعي بين المشروعين الإسرائيلي والفلسطيني لصالح الإسرائيلي هي حصيلة انهيار سوريا وعموما العالم العربي المحيط لا سيما العراق واليمن وليبيا.
لقد تقدم المشروع الإيراني بمستويات نوعية خارج فلسطين لم تعرفها لا إيران ولا المنطقة منذ السيطرة العثمانية على بغداد ودمشق ومصر قبل خمسمائة عام. لكن بقي البؤس الفلسطيني المعاصر يتزايد استيطانا ومقدسيا.
من هذه الزاوية الفلسطينية التي عادت اليوم وبعد قرار دونالد ترامب تشهد محورية كبيرة، والأرجح مؤقتة، في العالم العربي والمسلم، تنضم المدرسةُ الإيرانية إلى المدارس الملكية (الهاشمية والخديوية والليبرالية السورية) قبل قيام إسرائيل ثم الناصرية والفلسطينية (الفتحاوية والحماسية وأقرانهما) بعد قيام إسرائيل في فشل تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني وتَحمُّل مسؤوليةِ فشله.
عنى التفاهم المصري الاسرائيلي، رغم مكسب سيناء الكبير، الانسحاب المصري من الصراع العربي الإسرائيلي، وعنى الاتفاق النووي الإيراني رغم المكاسب الاقتصادية والديبلوماسية والإقليمية الإيرانية انسحاب إيران غير المعلن من الصراع العربي الإسرائيلي. على المستوى الرمزي كان توجيه حزب الله للانتقال من الجنوب (لبنان) إلى الشمال (سوريا) هو عنوان هذا التغيير.
يبدو دونالد ترامب وقد خربط هذا المعنى العميق جدا بسبب تغييره الراديكالي لالتزامات إدارة ترامب وإعادة تركيزه على أولوية الخطر الإيراني لكنه لم يجرؤ بعد على إلغاء الاتفاق النووي بسبب معارضة المؤسستين الأمنية والسياسية الأميركية لهذا الإلغاء ( وحتى معارضة أجزاء مهمة من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حسب بعض المتابعات الصحافية الجادة) مما يتطلب الحذر الشديد في التوقعات لأن ما يفعله ترامب هو السعي للفصل بين الاتفاق والمكاسب الإقليمية لإيران وهي مكاسب تقف عند حدود اسرائيل بل حدود فلسطين ولا تتعداها إلى الداخل رغم الاختراق الغزاوي.
الحركة الوطنية الفلسطينية ليست فقط في مأزق عميق جدا من العجز الذي يواجهه الشعب الفلسطيني كقَدَر مأساوي في نضاله اليومي العنيد بل هي في مأزق جديد من انهيار جديد في محيطها البنيوي السايكس بيكوي.
سايكس بيكو خلق بيئة للمشروع الإسرائيلي. وانهيار سايكس بيكو يكمل هذا المشروع ويحول دون قبول إسرائيل بأي تسوية حد أدنى كان عنوانها القدس الشرقية. بل بعض أحياء القدس الشرقية. ولا نتيجة. لا النشوء السايكس بيكوي نفع ولا الانهيار السايكس بيكوي نفع.
وُلد المشروع في العهد العثماني وضد العثمانيين، وبدأ التنفيذ في العهد السايكس بيكوي وضد الفلسطينيين، ونشأ في العهد البريطاني وسقطت القدس في العهد الأميركي وضد العرب ويتكرّس في أهم أمكنته، القدس، في العهد الأميركي وضد العرب والفرس والأتراك.
لا إمكان لدولتين بسبب الرفض الإسرائيلي ولا إمكان لدولة واحدة لأن عدد اليهود بين البحر المتوسط ونهر الأردن، أي في إسرائيل والأراضي المحتلة هو 7,8 ملايين يهودي بينما يبلغ عدد العرب 8,2 ملايين كما يكشف أوري أفنيري في مقاله الأخير وهما رقمان يقول أن السجلات الرسمية الإسرائيلية تخفيهما، وبالتالي فإن خيار الدولة الواحدة في هذه الحالة يصبح مستحيلا بالنسبة لإسرائيل.
ما العمل أيتها الآلهة؟ |