موناليزا فريحة لم تعد إيران تنفي طموحاتها في العالم العربي. صارت تجاهر بها علناً، لا بل تتباهى بها. قبل أيام، أطل الرئيس حسن روحاني ليعلن استحالة اتخاذ قرار حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال افريقيا والخليج الفارسي من دون أخذ الموقف الايراني في الاعتبار. ولم تكن أصداء هذا التصريح قد هدأت عندما حكم قائد الحرس الثوري الايراني محمد علي جعفري بأن نزع سلاح "حزب الله" اللبناني غير قابل للتفاوض. وبعده بيومين، طمأن نائبه البريغادير جنرال حسين سلامي إلى أن تجربة الباسيج نجحت، وصارت نموذجاً للمقاومة، تجلت في حزب الله بلبنان، والحشد الشعبي في العراق، وقوات الدفاع الوطني بسوريا، والأمر كذلك في اليمن ودول أخرى .
إذا، صارت طهران تقر بطموحاتها الاقليمية، وصار ثمة اقتناع راسخ في طهران بأن مشروع العواصم الاربع (صنعاء ودمشق وبغداد وبيروت) الذي تحدث عنه المرة الاولى العضو في مجلس الشورى الايراني علي رضا زاكاني قبل أربع سنوات، قطع شوطاً كبيراً. ومع سيطرة قوات النظام السوري وحلفائه، بمن فيهم الميليشيات المدعومة من ايران، أخيراً على مدينة البوكمال، نقطة الوصل بين العراق و سوريا وبين إيران وسوريا، صار لهذا الهلال جسر بري يربط "عاصمته" طهران بالعاصمة السورية دمشق، ومنها بسواحل البحر الأبيض المتوسط.
قبل الخوض في حجم هذا النفوذ في كل من العواصم الاربع ومستواه، لا بد من العودة الى الظروف التي أتاحت لطهران نسج هذه "المكانة" (كما سماها روحاني) لها في العالم العربي كما الأدوات التي مكنتها من ذلك.
استغلت طهران ظروفاً اقليمية ودولية عدة منذ الثورة الاسلامية لتزيد نفوذها في العالم العربي مباشرة حيناً وبالواسطة أحياناً عبر شبكة أتاحت لها التمدد لتتخذ لها موقعاً متقدماً في أكثر من دولة عربية تباهى به روحاني وسمح لجعفري باعطاء رأيه بسلاح "حزب الله"، وهو سلاح ايراني في اي حال.
وعن هذه الظروف، يقول الكاتب المصري عبدالعليم محمد أن النظام العربى فقد منذ عقود الكثير من قوته وتراجع عن الأدوار التي اضطلع بها في حقبة سابقة، بما فيها حمل لواء القضية الفلسطينية والدفاع عنها، وتخلى عن التضامن العربي الفعال الذي تجلى ظاهرا فى حرب أكتوبر عام 1973، وعانى من الانقسام بعد غزو العراق للكويت عام 1990. وسبق هذا الانقسام، انقسام آخر تعلق بموقف مصر من إسرائيل والتسوية السلمية وتوقيعها معاهدة كامب ديفيد.
وفي مقابل التراجع العربي، بدأت ايران، منذ الثورة الاسلامية التكيف مع واقعها الايديولوجي الجديد، واستثمار الفراغ الذي تركه تراجع الدور العربي، والمصري خصوصاً. ويشرح الكاتب أن ايران عملت بدأب مذذاك على " إنشاء "شبكات زبائنية" في العديد من البلدان العربية كلبنان واليمن وسوريا والعراق حيث أدى الغزو الاميركي.
الى ذلك، استخدم النظام الايراني خصوصاً الورقة الفلسطينية لتحقيق صدقية ومشروعية لدى الرأي العام وتوظيف التعاطف لتحقيق مصالحه السياسية والاستراتيجية واحراج الانظمة العربية.
ولا شك في أنه حقق نجاجاً كبيراً في هذا المجال من خلال علاقة إيران بمنظمات المقاومة الإسلامية إبان حقبة أوسلو لإفشال مشروع التسوية وإبراز القصور العربي فى إنجاز ملموس على صعيد هذه القضية.وحتى أن خط المقاومة أكسب طهران تقديراً لدى الشريك الفلسطيني في اوسلو.
ويروي الصحافي عبدالباري عطوان في مقال له أنه عندما هاجم المرشد الاعلى للثورة الايرانية أية الله علي خامنئي عام 1998 اتفاقات اوسلو بشدة، واعتبرها خيانة، وانتقد ايضا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، انبرى مسؤولون فلسطينيون للانتصار لزعيمهم، ووصف أحدهم خامنئي بأنه "أكتع"، فما كان من عرفات الا أن انتفض بشدة، وصرخ بأعلى صوته ان "يخرس"، قائلاً له ان هذا "الاكتع" يمثل ثورة عظيمة طردت السفير الاسرائيلي من طهران، وسلمت سفارته الى ثوار فلسطين.
مع الورقة الفلسطينية ومقاومة اسرائيل، استغل النظام الايراني سياسات الإقصاء والتهميش التي عانتها بعض الفئات في العالم العربي، فى مقدمها الطوائف الشيعية ، فتبنى مطالبها ودعمها مالياً وسياسياً، وذهب الى تشكيل أذرعها العسكرية لتحصين مكانتها.
غزو العراق
وأدى الغزو الاميركي للعراق الى تمكين النفوذ الايراني في البلاد في شكل كبير، وخصوصاً من خلال الطائفة الشيعية التي عانت كثيراً في ظل حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. فبعد حرب الثماني سنوات (1980-1988) بين البلدين، لم يكن أحد ليتوقع أحد أن يكون لطهران كل هذه السطوة على بغداد، ولكن كلمة السر كانت في "الغزو الأميركي للعراق"..
في عام 2003 باركت إيران الغزو الذي أسقط صدام حسين رغم أن العداء كان في أوجه بين الجمهورية الاسلامية و"الشيطان الأكبر". وأعلنت طهران تأييدها الكامل لأول حكومة تشكلت بعد الاجتياح الأمريكي للعراق.
الهلال الشيعي
شكل الغزو فرصة للتخلص من أحد ألد أعداء طهران، وفتح لها المجال لاحقاً لمد نفوذها وخصوصاً بعد التفكك الذي أصاب البلاد. في حينه، عبر العاهل الاردني عبدالله الثاني بن الحسين بوضوح عن هواجس العرب، مستخدماً للمرة الاولى مصطلح الهلال الشيعي خلال زياره له لواشنطن مطلع كانون الأول 2004، ومبدياً تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع نظام الثورة الإسلامية في طهران ونظام البعث بدمشق لإنشاء هلال يكون تحت نفوذ الشيعة ويمتد إلى لبنان.
ويقول الكاتب مصطفى اللباد إن فراغ القوة في العراق الناجم عن تبخر النظام السابق هو ما استدعى النفوذ الإيراني، "فرأينا حلفاء إيران يجلسون في بعض مقاعد السلطة ببغداد، ورأينا دمجاً لقدرات البلدين في نهر المصالح الإيرانية التي تمر عبر دمشق وبيروت". باختصار، يضيف: " تحول العراق من مكافئ جيو-سياسي لإيران وحائط صد أمام طموحاتها الإقليمية إلى مرتكز ونقطة وثوب لهذه الطموحات".
ومن جهته، يرى الصحافي عبدالباري عطوان إن توسع إيران في المنطقة هو حقها كقوة اقليمية عظمى قيد النهوض، وقد أقامت تحالفات صحيحة، مع روسيا مثلاً والعراق ايضاً، سمحت لها بالتمدد.
وهو يرى أن لايران مشروعاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً نهضوياً ويستند الى خريطة طريق محكمة الاعداد، في وقت يفتقر العرب الى مشروع أو اية رؤية ويكتفون بالقاء اللوم على الاخرين.
الربيع العربي والاتفاق النووي
شكل "الربيع العربي" فرصة جديدة لطهران لمواصلة مشروعها، فكانت الرابح الاكبر من الفوضى التي سادت العالم العرب اثر تحول المطالبات بالحرية والديمقراطية الى حروب دامية. ومنذ 2011، وسعت ايران تمددها كما لم تتمدد من قبل وتدخلت، في قرارات سياسية في بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، وصارت لها اذرع عسكرية في الدول الأربع تضمن لها مصالحها السياسية .
في ندوة بحثية نظمها مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، أكد خبراء أن العقيدة العسكرية الإيرانية تغيرت بعد أحداث الربيع العربي، نحو خوض حروبها خارج الحدود، وأكد الباحثون أن تلك العقيدة منصوص عليها في المادة ١٥٤ في الدستور الايراني.
راهنت الولايات المتحدة على تغير السلوك الايراني في المنطقة بعد الاتفاق النووي، الا أن الرئيس الاميركي السابق رفض ضغوطاً من حلفائه الخليجيين لرهن الاتفاق بتغيير أيران سلوكها في المنطقة ووضع حد لطموحاتها التوسعية، خوفاً من انهيار المفاوضات معها، الامر الذي أحدث تباعداً كبيراً بين ادارته والرياض خصوصاً. وحالياً، مع مرور أكثر من سنتين على توقيع الاتفاق النووي، ثمة اجماع على أن تحرر ايران من العقوبات ورفع الحظر عن أرصدتها التي كانت مجمدة في مصارف غربيةـ سمحا لها بحرية أكبر للتحرك لدعم طموحاتها التوسعية في المنطقة. |