بعد أكثر من خمس سنوات على اندلاعها، وعلى رغم التضحيات الجسام التي قاستها الشعوب العربية أملاً بحياة تليق بكائنات متمدنة، لا تزال الانتفاضات العربية تعاني إرباكاً متزايداً. فهل ما ضحت الشعوب لأجله كان دفاعاً مشروعاً عن قضايا عادلة وأحلام كبيرة أم أنه كان مطاردة أوهام مضللة كما يزعم الحكام «المؤبدون» وأنظمتهم الراسخة في الاستبداد؟ هل ما تعانيه الانتفاضات من إرباك ناجم عن بؤس أحلامها وهشاشة شعاراتها أم أن ثمة ما أحبط هذه الأحلام والشعارات وأعاق مسارها وتطلعاتها؟ هل نحن إزاء خيبة تضاف الى تاريخنا العربي الخائب أم أن ما نواجهه ليس سوى مخاض لولادة تاريخ وإنسان عربي جديدين؟
تؤسس هذه التساؤلات لقراءة نقدية شجاعة للمآل البائس الذي انحدرت اليه انتفاضات حملت معها أحلاماً ووعوداً سرعان ما تكشّفت نواقصها وتناقضاتها. من هذه النواقص والتناقضات:
أ – الانتفاضات العربية التي نزلت الى الميادين من تونس الى اليمن الى مصر وسورية والعراق، منادية بسقوط الأنظمة ورحيل الطغاة لم تكن تملك رؤية واضحة لما بعد إسقاط الأنظمة، وقبل ذلك لكيفية التعامل مع جبروتها وطغيانها توصلاً الى هذا الإسقاط. فقد انساقت الى منازلة الأنظمة في ميدان قوتها بدل أن تنازلها من موقع قوتها الذاتية، أي بالرأي والموقف والحراك السلمي. عمدت الى مواجهتها بالسلاح مع أنها تعلم أن الأنظمة أمضى سلاحاً وأعتى بطشاً وأعرق إرهاباً، فكانت المعاناة باهظة والخسارة هائلة والخراب شاملاً. بينما لو ثابرت الانتفاضات على حراكها السلمي، هل كان في استطاعة الأنظمة، مهما بلغ عتوها، أن تلحق بشعوبها كل ذلك الخراب؟ أي دولة او حكم في العالم كان سيملك أي حد من المنطق والمشروعية لتقديم الدعم السياسي والسلاح الفتاك لحكام يستبيحون دماء مواطنيهم المسالمين ويدمرون مدن وقرى أوطانهم الآمنة؟
ب – لم تقدم الانتفاضات العربية تصوراً لإشكالية الانقسامات العمودية في مجتمعات عربية مجزأة طائفياً ومذهبياً وإثنياً، فكان أن تحولت، في ظل الاستئثار وإرادة الهيمنة الطائفية أو المذهبية أو الإثنية، الى احتراب أهلي خبيث أجهز على الوحدة المواطنية. الأمر الذي حذر منه تقرير التنمية الإنسانية العربية عام 2005، إذ رأى أن إقصاء أي مكون من مكونات الأمة عن القرار الوطني، يرتب تداعيات كبيرة على وحدتها ويدفعها في اتجاه النزاعات الأهلية المدمرة، خصوصاً في عالمنا العربي المتعدد المكونات المجتمعية. أليس هذا ما حدث ويحدث الآن في غالبية بلدان الانتفاضات نتيجة استبعاد مكونات أساسية، طائفية أو مذهبية أو اثنية من المشاركة في القرارات الوطنية؟
ج – تميزت الانتفاضات العربية عموماً بقصور ايديولوجي. فالانتفاضات، على رغم مشروعيتها الشعبية والسياسية والأخلاقية، لم تطرح بدائل ديموقراطية حداثية تركز على حقوق الانسان وكرامته وقيمته التي لا يمكن التنازل عنها أو حتى المس بأي مقوم من مقوماتها، في موازاة بطش الأنظمة واستبدادها واستباحتها كل الحقوق المواطنية والإنسانية. بل إن ما شاهدناه من نحر وحرق ورجم وسبي ودمار على يد بعض الذين انتسبوا الى الانتفاضات، أعطى الأنظمة ذرائع لتبرير التمادي في التسلط والبطش والتنكيل تحت لافتة «محاربة الإرهاب».
هذا القصور الايديولوجي يجب أن يكون دافعاً لتحديث الفكر والرؤى والأواليات النظرية، باستئناف عملية الإصلاح الديني الموؤودة، من خلال استعادة المبادئ التنويرية لرواد الإصلاح في الفكر العربي الحديث والمعاصر، من الطهطاوي والشدياق والبستاني، الى أنطون سعادة وأمين الريحاني وطه حسين مروراً بجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي. فلن تكون مجدية مواجهة استبداد الأنظمة بإيديولوجيات تنتمي الى فضاء هذه الأنظمة المعرفي بالذات وعقلها السلطاني إياه، ولا مناص من مواجهة فكرها الظلامي بفكر تنويري يتمتع بمشروعية حداثية.
د – الانتفاضات التي استعادت الخطاب التأسيسي لليبرالية العربية، بتأكيد أولوية الحرية غيبت في المقابل أولويات التنمية والاشتراكية والوحدة القومية، ولم تأخذ في الحسبان دور العامل الصهيوني في الواقع السياسي والاجتماعي العربي، الدور الأساسي الذي اعتبره نجيب العازوري مقرراً لمستقبل المنطقة بل والعالم، في استشراق رؤيوي قبل أكثر من قرن. وهكذا بدا وكأن الحراك الجماهيري يدور على أرض لا انتماء قومياً محدداً ولا هموم مواطنية جامعة لها، فكان أن انقضت الأصولية على الحراك الديموقراطي، طارحة فكرها الظلامي بديلاً أحادياً، ما مهّد ليقظة كل العصبويات المتخلفة المهددة للوحدة المواطنية بالترافق مع الحراك الجماهيري الديموقراطي.
إلا أن هذا المآل الخائب للانتفاضات العربية يجب ألا يعني بأي حال إضفاء المشروعية على أنظمة الاستبداد الفائتة والمجافية لحراك التاريخ ومنطقه. لقد وضعت الانتفاضات الدولة التسلطية العربية وجهاً لوجه أمام مأزق تناقضها، فلم يعد في إمكانها الاستمرار وتغطية لا شرعيتها بالقوة السافرة، وباتت مجبرة على التماس الشرعية الشعبية المفتقدة، من خلال عقد جديد مع المجتمع غير قائم على القسر والإكراه. واذا كانت مواجهتها الخائبة بالحشد الطائفي قد أطالت أمدها، وأمدّتها بذرائع ومبررات مخادعة، إلا أن ذلك لا بد أن يخلي الساحة لحراك ديموقراطي ليبرالي لن يتأخر طويلاً.
* كاتب لبناني |