الجمعه ١٠ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون ثاني ١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
2016 - 2017: تعثّر الديموقراطيّة... بعد انحسار الليبراليّة - وحيد عبدالمجيد
شهد العالم خلال العقد الأخير انحساراً تدريجياً في القيم الليبرالية سبقه تراجع في حضور الأحزاب والحركات المؤمنة بها في معاقلها الغربية، وازدياد الصعوبات أمام ظهور مثلها وانتشارها في بلدان أخرى منذ السبعينات.

لكن توسع نطاق العولمة، الذي عبر عن نقلة تقدمية، حجب حقيقة أن «نيوليـــبراليين» و»محافظين جدداً» معادين لأهم مقومات الثقافة الليبرالية، أو غير مبالين بها، هم الذين أعطوا هذا التوسع زخمه الاقتصادي. لذلك، لم يتبيّن أن الثقافة الليبرالية مُهدَّدة حين بدأت إرهاصات انحسارها، بل بدا في التسعينات أنها في ازدهار إلى حد أن البعض (وليس فوكوياما فقط) تخيل أن التاريخ انتهى عندها.

لكن اللحظة التي بدا فيها أن هذه الثقافة تنتصر، كانت هي نفسها لحظة بداية انحسارها. فالعولمة الاقتصادية المنفصلة عن جوهر القيم الليبرالية قسمت المجتمعات إلى رابحين وخاسرين بسببها. ولم تؤخذ بجدية الكتابات القليلة التي نبهت مبكراً إلى أن الليبرالية تنحسر، ككتاب فريد زكريا «مستقبل الحرية: الديموقراطية غير الليبرالية في الولايات المتحدة وخارجها» الصادر عام 2003.

وكان صعود قوى شعبوية على أكتاف الخاسرين خلال العقد الأخير نتيجة انحسار ثقافة الليبرالية، بالتوازي مع توسع نسختها الاقتصادية الأكثر تطرفاً.

لكن عام 2016 كان نقطة التحول الكبرى في هذا الاتجاه الذي يُفرّغ الديموقراطية من الثقافة الليبرالية، ويعتمد على استثارة عواطف الناخبين وتعبئتهم ضد «الأعداء» بدل ملء المجال العام بحوارات موضوعية حرة. وكان صعود ترامب إلى رئاسة الدولة الأكثر عراقة على صعيد ارتباط الديموقراطية بالثقافة الليبرالية ذروة هذا التحول، الذي بات متوقعاً أن يبلغ ذرى أخرى في أوروبا في 2017 بدءاً من الانتخابات الهولندية والفرنسية في ربيعه. وصار مرجَّحاً أن تواجه الثقافة الليبرالية محنة في أهم مواطنها التاريخية، سواء فازت مارين لوبين أو فرنسوا فيون، لأن الفرق بينهما كمي وليس نوعياً.

ويُعد هذا التحول صوب ديموقراطية غير ليبرالية ارتداداً تاريخياً يثير الأسى، لكنه لا يبعث على الاستغراب الذي أصاب من تعودوا على أن تكون الديموقراطية ليبرالية. فقد نشأت الليبرالية أولاً ثم الديموقراطية في عمليتين تاريخيتين منفصلتين، وإن كانت أولاهما ساهمت في ظهور الثانية. فالديمـــوقراطية التي نعرفها اليوم تعود إلى القرن التاسع عشر، أي بعد نحو ثلاثة قرون على الإشراقة الأولى لشمس الثقافة الليبرالية في عصر النهضة.

وصار اقترانهما بعد ذلك نقلة تقدمية كبرى في تاريخ البشرية. لذلك، يُعد انفصالهما ارتداداً سياسياً - ثقافياً يجعل الديموقراطية بلا روح، حتى حين تعمل مؤسساتها وفق قواعدها وأصولها. وبهذا الارتداد، صار «إرهاب الإرهاب» وأي لجوء من دول كبرى وصغرى إلى وسائل إرهابية ينطوي بعضها على جرائم ضد الإنسانية في مواجهة إرهاب جماعات عنيفة، أمراً معتاداً ومقبولاً في أوروبا وأميركا، بعدما صارت الثقافة الليبرالية هامشية في سياسات حكوماتها.

فالحقوق الفردية والحريات الثقافية التي تمثل جوهر هذه الثقافة، والروح التي تعصم الديموقراطية من أن تصبح مجرد عملية إجرائية، يمكن أن تحمل ديكتاتوراً إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع. وعندئذ تصبح الديموقراطية نفسها، أي بوصفها عملية إجرائية، في خطر، ويزداد احتمال تحوّلها إلى ديكتاتورية غالبية تعتمد على الانتخاب بدل الانقلاب. وهذا خطر يواجه العالم الآن، ويرتبط في ظله صعود قوى شعبوية وتوسّعها بازدياد الاتجاه الى استخدام آلية الاستفتاء العام لأخذ رأي الشعب في قضايا مختلفة.

وقد أحدث استفتاءان في 2016 تحوّلين خطيرين في أوروبا، وهما استفتاء «البريكزيت» الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في حزيران (يونيو)، والاستفتاء على الإصلاح الدستوري في إيطاليا في تشرين الثاني (نوفمبر). وها هي قوى شعبوية أوروبية عدة تشهر سلاح الاستفتاء لتكرار ما حدث في بريطانيا، ما يُمثّل تهديداً للديموقراطية، وليس خطراً على التجربة الأوروبية فقط.

فالاستفتاء مكروه في التقاليد الديموقراطية الليبرالية بوصفه سلاحاً تفويضياً يلائم التيارات الأكثر غوغائية، منذ استــــخدمه لويـــس بونابرت عام 1851 للحصول على فترة رئاسة ثانية لم يكن مخولاً لها، ثم لجأ إليه في العام التالي لإلغاء الجمهورية الثانية التي كان رئيسها، وتحويلها إلى إمبراطورية (الإمبراطورية الفرنسية الثانية 1852 - 1870).

وفيما يتوسّع اللجوء إلى الاستفتاء العام في مرحلة الارتداد الراهن، انتبهت محكمة لندن العليا، كما يبدو، إلى خطره على الديموقراطية، وقضت في أول تشرين الثاني بمنع الحكومة من تفعيل مفـــاوضات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي من دون مـــشاورة مجلس العموم المنتخب في اقتراع هو بطبيعته أكثر ديموقراطية من الاستفتاء العام.

وربما تكون لهذا الحكم أهمية رمزية إذا أيدته المحكمة البريطانية العليا في حكمها المتوقع في الشهر الجاري. لكن الديموقراطية ستظل مهدَّدة في معاقلها إلى أن يثبت لغالبية الناخبين أن الشعبوية الصاعدة لا تملك رؤية ولا مشروعاً، ولا تقدم سياسات فاعلة في مواجهة أزمات اقتصادية واجتماعية كبيرة أجادت استغلالها انتخابياً.

وسيبقى الخطر على الديموقراطية إلى أن يتضح للغالبية أن الشعبويين بارعون فقط في استنهاض أسوأ ما في البشر، وأكثره تعبيراً عن البربرية والوحشية، وأن هذا النوع من البراعة يساعد في الصعود إلى السلطة، لكنه لا يكفي للنجاح في أداء مهماتها، ولا يُمكّن تالياً من الاستمرار فيها لفترة طويلة تتيح اقتلاع قواعد الديموقراطية الإجرائية حتى في ظل ضعف ثقافتها الليبرالية.

لذلك، ستبقى الديموقراطية متعثّرة في الغرب لبضع سنوات، لكن من دون اقتلاع قواعدها الإجرائية، أو مصادرة تعدّديتها السياسية، على رغم تراجع قيمة تعدديتها الثقافية، ولن يلوح تالياً شبح إعادة إنتاج فاشية الثلاثينات التي انتهى عصرها، وأُعيد إنتاجها في صورة شعبوية جديدة. فقد أتاحت الممارسة الديموقراطية الطويلة ترسيخ ثقافة خاصة بها في مجال التعددية السياسية، الأمر الذي يقلل تأثير انحسار القيم الثقافية الليبرالية فييها.

لكن حتى إذا صحّ توقع أن موجة الارتداد الراهن في الغرب لن تطول، ستكون الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط أكثر مأسوية خلال السنوات التي ستبقى فيها، وستصبح الأجواء أكثر ملاءمة للأنظمة الأشد استبداداً وتوحشاً، ولتسويق خرافة «الرئيس الذي لا بديل منه»، وسيزداد انتهاك حقوق الأقليات (وأحياناً الغالبيات) الإثنية إلى أن يستعيد العالم مساره التقدمي مجدداً.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة