ماذا لو قرر المرء أن يكتب آخر مقالٍ له في 2016 عن لبنان؟ ماذا يستخرج من نفسه، وما الذي يمكن أن يقال؟ الإجابة الرائجة هذه الأيام أن لبنان بلد قليل الأهمية قياساً بما يجري حوله، وهو قليل الأهمية في لبنان أيضاً: ذاك أن ما يجري في سورية والعراق وفلسطين أهم للبنان مما يجري في لبنان! سقوط حلب وسحقها من قبل تحالف روسيا وطهران والنظام السوري أهم للبنان من انتخاب رئيس للجمهورية بعد أكثر من سنتين على الشغور. تجريم الاستيطان في المناطق الفلسطينية أهم أيضاً للبنان من تشكيل الحكومة فيه. استعصاء الموصل على التحالف الدولي الذي يحاول هزم «داعش» هناك، مؤشر يعني لبنان أكثر من انتصارات الأمن اللبناني على خلايا هامشية لـ «داعش» في بعض أطراف لبناننا.
والحال أن هامشية الموقع اللبناني مما يجري في المنطقة، وهي التي نعتقد أنها جنبتنا كوارث محيطنا، متوهمة وغير حقيقية، وهي كذلك لأننا في صلب كل ما يجري حولنا من دون أن تكون لنا القدرة على التأثير فيه.
لعل استعصاء الموصل على التحالف الدولي أكثر ما يمكن أن نتوهم أننا بعيدون عنه، والاستعصاء هذا أبعد جغرافياً عنا من حلب ومن فلسطين، وطوائفنا غير منخرطة على نحو واسع في القتال هناك. هزم «داعش» في الموصل انتصار لتحالف هو في صلب الانقسام اللبناني، واستعصاؤه صمود في وجه هذا التحالف. هذا فيما يعيش لبنان على كذبة كبيرة تتمثل في وهم الانفصال عما يجري هناك.
لبنان لا يُدرك، أو لا يُريد أن يدرك، رمزية وجود خبير واحد من حزب الله يقاتل إلى جانب الحشد الشعبي في العراق، وأن ثمة سيدة في باب التبانة تكره «داعش» لكنها قلقة على ابنها الذي حدثها قبل أيام من الموصل. لبنان هذا منشغل عن الحدث بمسرحية نيل الحكومة ثقة مجلس النواب.
للمرء أن يُلاحظ أن حجم الانشغال اللبناني بلبنان نوع من الانفصال المطمئن عن الواقع، لكنها طمأنينة من ينكر على نفسه أنها على وشك أن تَنفق وأن تنتهي. أن يتصدر خبرُ نيل حكومة تافهة الثقة خبرَ مشاركة لبنان في سحق حلب على رؤوس أهلها، فهذا نوع من الهرب نمارسه جميعنا، ولعل أكثر اللحظات حقيقية في هذه المعادلة البائسة هي تلك التي اختارت فيها صحيفة مقربة من حزب الله أن تصف الحكومة اللبنانية لحظة ولادتها بأنها «حكومة حلب».
نعم، هي حكومة حلب، ومن دون مزدوجين هذه المرة. حلب أقوى من لبنان في لبنان. سعد الحريري ما كان يمكنه أن يشكل الحكومة لولا حلب. كان يمكن سليمان فرنجية أن يشاغله سنوات قبل أن يقبل الحقيبة الوزارية التي عرضها عليه. فما تغير منذ سنوات الشغور المديدة ليس قبول الحريري انتخاب ميشال عون رئيساً، إما سقوط حلب بوصفه المؤشر والتحول.
ليست الموصل ولا حلب ما يتقدمان لبنان في لبنان، ذاك أن انعدام قدرة الأخير على التأثير في نفسه وفي حاله تبلغ مبلغاً يدفع المرء إلى اعتقاد أنه حيال ريشة في الهواء تعصف بها رياح من كل حدب وصوب وتدفعها في كل الاتجاهات، فيما هي مكتفية بكونها ريشة جميلة. فلبنان، ولشدة انشغال الريشة بنفسها، لم يكترث لما قاله وزير الخارجية الأميركية جون كيري في مرافعته عن موقف بلاده من قرار تجريم الاستيطان، حيث «يجب تعويض اللاجئين الفلسطينيين أينما كانوا». الإشارة هذه تأخذنا إلى التوطين طبعاً. لبنان معني بهذه العبارة، لكنه عديم التأثير فيها، لا بل أكثر من ذلك، إذ أصبح خيالنا السياسي عاجزاً عن إسعافنا بذكاء يساعدنا على إدراك أننا معنيون بما قاله كيري. الريشة الجميلة تتراقص وسط العواصف، وكل ما يعنيها إيصال وزراء إلى الحكومة يُسعفون أولياء أمورهم في رأب الصدع المالي الهائل الذي يعيشونه.
لعلنا هنا نُبالغ قليلاً في التوقع، ولعل ثمة من يجب أن يشكر الله على نعمة الجهل الذي حولنا ريشة جميلة تعصف بها رياح عاتية. ذاك أن انتباهنا إلى أن ما قاله كيري يعنينا كان سيفرض علينا أن يتولى ملحم رياشي، وزير الإعلام الجديد، والناطق باسم الحكومة، مهمة مساجلة كيري، في وقت تركزت خبرة وزيرنا، بحسب النبذة الموزعة عنه، على «جيوستراتيجيا المفاوضات بين التيار العوني والقوات اللبنانية». وما على الريشة الجميلة في هذه اللحظة إلا أن تردد وراء المتنبي: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاء ينعم».
لكن ليس صحيحاً على الإطلاق ما نتوهمه لجهة أننا «لا شيء في المنطقة» وأننا نجونا بأنفسنا جراء ذلك. السياسة كما تعرضها محطات التلفزيون اللبنانية هي هذا «اللاشيء»، أما الطوائف، وهي حقيقتنا قبل كل شيء، فليست كذلك. الطوائف منخرطة في الحروب، ودور لبنان في حلب ليس ثانوياً، كما أن رمزية دوره في الموصل كبيرة، والخمسمئة ألف لاجئ فلسطيني ممن يعرضهم كيري علينا لتوطينهم ليسوا تفصيلاً يتقدمه السجال على مقعد وزارة الأشغال.
وإذا كان عهد الرئيس ميشال عون عهد إعادة لبنان إلى لبنان، وهو ما ترجم في مفاوضات تشكيل الحكومة بصفته سجالاً على من يتولى الوزارة الأكثر دراً للربح في جيوب الطوائف، فإن نهاية وشيكة تنتظر الريشة القبيحة.
لكن ما هو أقبح من الريشة أن العالم يأخذ بيدنا إلى مزيد من الجهل. ذاك أنه صفق لنا لأننا انتخبنا رئيساً ليتولى هذه المهمة، وهو يُراوغنا بتواطئه علينا كي نقبل ما نحن فيه، اذ لا يبدو أن «إعادة لبنان إلى لبنان» تعني له أكثر من نصاب سياسي هش يحميه من تدفق اللاجئين عليه.
أما مهمة حماية من تبقى من مسيحيين في لبنان والمنطقة، وهي المهمة الثانية التي كنا نعتقد أنها تعنيه، فلا يبدو أنها جزء من همومه.
لبنان يقاتل في كل المنطقة، ومنشغل بتوزيع غنائم تافهة على رؤساء طوائفه. هذا ما يمكن المرء أن يقوله عنه في نهاية 2016. |