السبت ١١ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون الأول ٣١, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
أحوالُ العالم عجزٌ وتأزّم واحتفاءٌ بالبربرية - علي حرب
مع نهاية كل عام يتمنّى الناس أن تتحسّن الأحوال في العام الذي يليه. في عالمنا العربي تبدو الآية معكوسة. فالأمور تسير، عاماً بعد عام، من سيّء إلى أسوأ، وسط تراكم الأزمات وانسداد آفاق التغيير نحو الأفضل والأصلح.

وفي العام الفائت (2016) بلغت الأوضاع منتهاها اضطراباً وتمزّقاً وتردّياً، في غير بلد عربي دخل، منذ سنوات ست، في حروبه الأهلية ولم يستطع الخروج منها، لوضع حدّ لجولات العنف الأعمى والفاحش. والمثال الفاضح هو ما جرى في مدينة حلب من أعمال الحصار والتجويع أو التهجير والتطهير والقتل الجماعي، على مرأى ومسمع من العالم الساكت والعاجز أو المستفيد والمتواطئ. ولا أعتقد بأن العام المقبل (2017) سيكون أكثر سوءاً. وهل هناك أسوأ من تهجير الناس من ديارهم أو اعتقالهم لإبادتهم؟! لعلّنا نحتاج إلى عبارات جديدة لوصف ما يحدث: مكافأة الجلاد، الاحتفاء بالهمجية، رسم خريطة جديدة للمشرق العربي، على أساس التجانس الطائفي والعرقي.

مقاومة الإصلاح

العرب هم المسؤولون، بالدرجة الأولى عن مصائرهم، أياً كان حجم التدخل الخارجي من جانب اللاعبين الكبار والأقوياء على المسرح: أميركا وروسيا أو إيران وتركيا. ومكمن العلّة أن الأنظمة القائمة منذ عقود لم تشأ أن تتغير، لكي تحسن مواجهة التحديات الجسيمة والتحولات الهائلة التي يشهدها العالم على غير صعيد. معظم الدول تغير، بهذه الدرجة أو تلك، في هذا المجال أو ذاك، بالتحول نحو الديموقراطية أو بتحقيق نجاحات في التنمية. باستثناء غالبية الأنظمة العربية التي رفعت شعار الممانعة ضد أي تغيير، وقاومت بشراسة كل مسعى إلى الإصلاح والتطوير.

ولذا عندما انتفضت الشعوب العربية، رافعةً شعارات الحرية والعدالة والكرامة، تألبت ضدها الأنظمة المهيمنة ومعها القوى المعادية للتغيير، ووضعتها أمام خيارين، الواحد منهما أسوأ من الآخر: الرضوخ للواقع البائس، أو الحرب الأهلية، الاستبداد السياسي أو الإرهاب الديني. بذلك اجتمع الضدان، الطاغية والمرشد، أو الجهادي والمجاهد، على سحق التظاهرات السلمية وتدمير المدن العربية.

وهكذا سدّت أبواب التغيير، لا من فوق ولا من تحت، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى المعيشي أو الإنمائي. بل حصل الأسوأ، وهو أن ما أفدناه من العام الحديث من المفاهيم والقيم والنظم قد أسأنا استخدامه وترجمناه بضدّه. هذا ما فعلته الأنظمة التي رفعت شعارات التحرّر والتقدم والوطنية والعدالة والحرية، لكي تتخذها ذريعةً للاستبداد بالسلطة وممارسة الحكم بعقل أمني مافيوي أفضى إلى هدر المال العام والعبث بالمقدرات، بقدر ما صادر الحريات وعطّل دولة القانون والمؤسسات.

وكانت الحصيلة أن الحرية ترجمت استبداداً، والعدالة مزيداً من التفاوت، والعلمانية عودة مرعبة للاستبداد الديني، والوطنية عودة بربرية للوصاية الأجنبية. أما السياسة فقد تحولت إلى سوء في التدبير وفساد في الإدارة. وأما التقدم فلم ينتج سوى عوائق ومآزق. باختصار: ما حصده العرب هو الفشل في ما يخصّ الاستحقاق الحضاري المتعلق بتحديات الديموقراطية والمعرفة والتنمية والإدارة.

غياب العرب

ليست الحروب الدائرة على الأرض العربية هي حروب عربية صرفة، ولا هي حروب عربية مدعومة من قوى خارجية حليفة لهذا المعسكر أو ذاك. فوقائع الحرب وفصولها وأجنداتها تشهد بأنها تُدار وتحسم من الخارج، ولمصلحته بالدرجة الأولى. من هنا يحضر، اليوم، الفاعلون على المسرح، من أميركيين وروس وأتراك وإيرانيين وأوروبيين، أكثر مما يحضر العرب أنفسهم.

ولو أحصينا عدد اللقاءات بين وزير خارجية أميركا ونظيره الروسي، في ما يخصّ الشأن السوري، نجد أنها تفوق أضعافاً مضاعفة اللقاءات بين وزراء الخارجية العرب. لهذا فإن كيري ولافروف يتصرّفان وكأن ما يجري في سورية إنما يحدث في واشنطن أو في موسكو. بهذا المعنى فالحروب العربية هي حرب إقليمية عالمية يلعب فيها العربي دور الوكيل لا أكثر. من هنا فإن حديث النصر التاريخي هو فضيحة العقل الأيديولوجي العربي الذي يحوّل الهزيمة إلى نصر والاحتلال إلى تحرير، لأنه يعتبر بقاء النظام هو النصر الحقيقي، ولو كان الثمن هلاك العباد وخراب البلاد.

والغياب العربي لا يقتصر على الساسة والقادة، بل إن الشارع العربي يغيب أيضاً عن الحدث، قياساً على ما كان يجري من قبل، حين كانت التظاهرات الحاشدة تملأ الساحات والميادين احتجاجاً على أحداث أقل خطورة بكثير. ربما لم تعد مشاهد العنف الهمجي، الذي بلغ أقصاه، تستثير مشاعر الناس، بعد أن تعوّدوا عليها وصارت جزءاً من حياتهم. وقد ساهم في خلق هذه الحالة تصدّر المنظمات الجهادية الانتفاضات السلمية، بتسهيل أو دعم من أنظمة الاستبداد والفساد التي لا تريد أن تترك شعاراً إلا وتحرقه، من أجل إسكات الشعوب وتدجينها.

تراجع الغرب

إذا كان العالم العربي في أسوأ أحواله، فالعالم الغربي هو فريسة أزمة تهتز معها صورته أمام ذاته وفي العالم. ومن أعراض هذه الأزمة تكاثر الحديث منذ زمن عن ضعف الغرب وتراجعه. واليوم يتجدد الخطاب حول انهيار الغرب أو حول نهايته، وتتجدد معه القراءات التي تحلل الأسباب والعوامل المنتجة للأزمة.

هناك النرجسية الثقافية التي جعلت الغربيين يعتقدون بأنهم مركز العالم ومقياس التقدم الحضاري ومحتكرو الإنتاج العلمي والتقني... ولذا كلما حقّق سواهم تقدماً حسبوه تأخراً لهم، وشعروا إزاءه بالخوف والقلق على المصير. هذا ما حدث بعد صعود الدول الناشئة، خصوصاً بعد أن تحولت الصين إلى عمـــلاق اقتصـــادي ندّ ومنـــافس للدول الغربية.

وازدادت المخاوف بعد غزوة «القاعدة» للولايات المتحدة في عقر دارها في العام 2001. وكانت تلك بداية لتصاعد الإرهاب الجهادي الذي يشنّ هجماته داخل البلدان الغربية، على يد مسلمين وُلِدوا على أرضها، ما عُدَّ تهديداً لحضارة الغرب وقيَمه ونمط حياته. ثم زاد الطين بلّة تراجع أميركــــا زعيمــة العالم الغربي، منذ الحـــرب العالميـــة الثانية، أمام تقدم روسيا في غيـــر قضــية وعلى غير موقع. وروسيا كما يراها فلاديمير بوتين أو يريدها، هي نقيض أوروبا والولايات المتحدة من حيث الالتزام بثالوث الديموقراطية والحرية والليبرالية. الأمر الذي أثار قلق الأوروبيين على مصير قارتهم.

واليوم، يلاحظ أن الأزمة اشتدت وباتت مستعصية على الحل. من الشواهد على ذلك أن تغيير الحكومات والبرامج، بإحلال يساري محل يميني لم يعد مجدياً. ففي فرنسا أخفق اليسار في الحكم، وكانت النتيجة أن تفكك وتمزق. وفي اليونان وإسبانيا وايطاليا سرعان ما انكشف عجزه عن تحقيق برنامجه في هذا الزمن المتسارع. ولا يعني ذلك أن اليمين يملك البدائل، لأن الأزمة المستفحلة تعني أننا تجاوزنا ثنائية اليمين واليسار، بعد أن استهلكت الأسماء والصور أو الأفكار والشعارات. والدرس أن الفكاك من المأزق يحتاج إلى الجديد والفعّال من الرؤى والإستراتيجيات أو النماذج والبرامج، إن في النظر أو في العمل، في القراءة والتشخيص أو في المعالجة والتدبير.

تعثّر الدول الناشئة

لا يستقيم الحديث عن العالم من دون التطرّق إلى الدول الناشئة على المسرح، لكونها فتحت الإمكان لنشوء التعددية القطبية، ولولادة نماذج جديدة في التنمية، كما في الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا.

هنا أيضاً سرعان ما تعثرت التجارب، فالبرازيل، صاحبة التجربة الناجحة، ضربتها لوثة الفساد. أما الصين التي كان يؤمل بأن تتحول نحو الديموقراطية، مع القفزة التي حققتها في مجال النمو الاقتصادي، فإنها خالفت التوقعات، وازداد الممسك بمقاليد السلطة انفراداً وقبضاً. وأما الهند فإنها تكاد تتراجع عن ديموقراطيتها لمصلحة قوى شعبوية عنصرية.

في ما يخص روسيا فإنها في تدخلاتها على غير ساحة، تقدم النموذج الأسوأ. لقد جمعت الاستبداد القيصري والإرهاب الستاليني، لكي تدعم أنظمة الحقد الطائفي والاصطفاء العقائدي والثأر القومي. والحصيلة هي هذه المجازر الجماعية التي كانت ضحيتها مدينة حلب.

والمغزى هنا أن الدول الناشئة لم تنجح في ابتكار نماذج وأساليب جديدة في الحكم والإدارة، فالنمو الاقتصادي لا يكفي كمعيار لتقييم التجارب والسياسات، لأن النموذج الناجح هو الذي يعبر عن تجربة وجودية ثرية تغير وجوه الحياة على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية، أو الثقافية والخلقية.

الغاية والأداة

ملخّص هذا التشخيص للواقع أن العالم ليس على ما يرام. فهو يزداد اضطراباً وتأزماً، بقدر ما يزداد عالمنا العربي توحّشاً وتمزّقاً. نحن إزاء عالمين متداخلين لا ينفك أحدهما عن الآخر، سواء في تبادل المساوئ أو المنافع. ومن يظن أنه يخدم مصلحته بالإضرار بغيره، سيرتد عليه عمله، في عصر الاعتماد المتبادل، ضرراً عاجلاً أم آجلاً. وبالعكس.

فهل أُسقط من يد الإنسان وبات أعجز من أن يسيطر على نفسه، وأن يركّب حلولاً لمشكلاته؟ هل أصبحت أهواء الإنسان ومغامراته تفوق قدراته ووسائله؟ هل الإنسان العاقل هو خرافة؟ وهل العقل مجرد أداة لتحقيق مشاريع الغزو والهيمنة أو مجرد آلة تستخدمها قوى التعصّب والعنصرية والفاشية في أعمال الإقصاء والاستئصال؟

لا يجدر الغرق في التشاؤم. الأجدى هو استخدام ما نملكه من ميزة أو نجترحه من قدرة، أعني سلاح التفكير الذي هو منبع الإمكان، كما يتجلّى في العودة النقدية على الذات وعلى الأفكار، بالمراجعة والمحاسبة، تحليلاً وتركيباً، على سبيل التبصر والتعقل، لإيجاد المخارج مما انتهت إليه مشاريعنا من المآلات البربرية من حيث العلاقة بين النظراء، والأفكار العدمية من حيث العلاقة بالمبادئ والقيم، والنهايات الكارثية من حيث العلاقة بالبيئة والطبيعة.

هناك أفكار تحتاج إلى إعادة النظر، إذ نحسبها بداهات فيما هي التي تصنع عالمنا، لتقودنا إلى مآزقنا الحضارية والوجودية، من حيث لا نعقل ولا نحتسب، لما تنطوي عليه من وجوه الخداع والوهم أو الادعاء والزيف.

زيف الهوية

أتوقف عند مقولة الهوية التي هي من أكثر الأفكار زيفاً وخطراً. ربما كانت لهذه المقولة صدقيتها في زمن المجتمعات المغلقة الطائفية أو القومية. أما اليوم فإنها فقدت صدقيتها مع الدخول في العصر الرقمي، حيث انكسرت الحواجز بين الثقافات والمجتمعات، وحيث تشابكت المصالح والمصائر بين الدول والأمم، بقدر ما تعاظمت إمكانات النقل والانتقال أو التواصل والتفاعل في ما يخصّ المعلومات والأفكار أو الأشخاص وأساليب الحياة.

مثل هذا الحراك الكوني، الذي لا سابق له، سواء على المستوى المادي أو على المستوى الرمزي، كسر منطق الانغلاق والصفاء والتجانس. لم تبق هوية على ثوابتها، أو مجتمع على تجانسه. ولا أحد ينجو اليوم من أثر التفاعل مع الغير على سبيل التهجين الثقافي. من هنا فإن دعوى المماهاة مع الأصول، كما يطرحها السلفيون لا تترجم إلا على نحو ما نكابد ونعاني: اندلاع الحروب الأهلية، والدخول في عصر الإرهاب الجهادي.

لقد ولّى زمن المجتمعات المتجانسة والهويات الصافية. مثل هذه المشاريع التي يفكّر فيها أصوليو العقائد والهويات، في مواجهة منطق الدولة والمواطنة والعالمية، إنما تؤسِّس للحرب الأهلية أو تعمل على تجديدها، أو تطلق موجات جديدة من الإرهاب. ولعلّ هذا ما سيخلّفه النصر الذي يتحدّثون عنه في حلب.

لنحسن التشخيص. إن الإرهاب هو ظاهرة معقدة تحتاج إلى معالجات مركبة ومتعددة، سياسية ضد الاستبداد، أو معيشية ضد الفقر، أو حضارية ضد التخلف، وهي تحتاج في شكل خاص إلى معالجة فكرية ضد التعصب والتطرف. أما معالجتها على المستوى الأمني وحده، فإنه يعيد إنتاجها في شكلها الأسوأ.

إنسانيتنا هي المشكلة

لعلّ أهم ما نحتاج إليه على مستوى الفكر؛ هو إعادة النظر بصورتنا عن أنفسنا، ككائنات بشرية، بحيث لا نثق ثقة مفرطة بما نقوله أو ندعيه، خصوصاً بما يطرحه أصحاب الدعوات والمشاريع. فسجل الإنسان في ما يخص الحريات والحقوق ليس ناصعاً، بل تلطخه الارتكابات والانتهاكات، التي تجعل النهايات على خلاف البدايات. وإلا كيف نفسر أن يتحوّل المظلوم إلى ظالم، والثائر إلى قاتل، والمحرّر إلى محتلّ، والضحية إلى جلاّد؟!

لذا، من السذاجة أن نضع الملامة على الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرّة. والأطرف هم أولئك الذين يلعنون التقنية، كما يفكـــر ديناصـــورات العقل القومي أو اليساري. كل الطوباويات الفردوسية تُرجِمت بضدّها، أكانت اشتراكية أم رأسمالية أم دينية مهدوية.

المسؤولية تقع على شراسة الإنسان وعدوانيته ووحشيته. مرة أخرى لنحسن التشخيص حتى نجد المخرج، والأحرى القول حتى نخفّف من الأعباء والتكاليف والعوائق، أو لكي نحدّ من المظالم والفظائع. نحن أدنى شأناً من حيث علاقتنا بالقيَم والمبادئ. لقد تعدت المسألة انتهاك القيم أو الإساءة إلى حقوق الإنسان، لأن أعمال الانتهاك للحقوق باتت هي القاعدة، تماماً كالفساد المالي والإداري.

لنفتح إذاً ملف إنسانيتنا بصورها ونماذجها وقيمها، فهي المشكلة لأنها هي التي تصنع ما يفاجئنا ويصدمنا. هي التي تجعل الواحد يمارس ما يعيبه على الغير، أو يصنع ما يدعي محاربته. إنه ورم الأنا وعقيدة الأعلى، عقدة الذاكرة وأفخاخ الهوية، ما يعني الحاجة إلى ولادة إنسان جديد بأنماطه وأساليبه، بمفاهيمه وقيَمه. فهل نحن قادرون؟


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة