السبت ١١ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون الأول ٢٥, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
اللايقين السياسي في عصر ما بعد الحقيقة - صلاح سالم
إذ يبدو دونالد ترامب في خطابه السياسي حاداً وجذرياً، مثلما يبدو تصوره للعالم بسيطاً والحقيقة لديه جلية يمكن بلوغها بيسر، فهو قريب الشبه بالتغريدة التي يدونها مستخدمو «تويتر»، أو البوست الذي يكتبه رواد «فايسبوك»، بأكثر مما يشبه الفكرة لدى كاتب أو متفلسف، أو حتى الخاطرة الأدبية في خيال القاص أو الروائي.

قد يختلف المفكرون في ما بينهم على صعيد عمق التحليل، أو في درجة التمرد على المألوف، كما يختلف الأدباء في مساحات الخيال، أو في القدرة على السرد، ولكن يبقى لكليهما، المفكر والأديب، حق الادعاء بأنه مهموم بالإنسان، أو معني بالحقيقة، وفق أي تصور لها، ناهيك عما هو مؤكد من جد واجتهاد وعكوف تفرضه كتابة أي نص حتى لو كان سيئاً. فالسوء على هذا المستوى يعكس تراكماً يحتاج إلى جهد ووقت.

وفي المقابل لا يملك مدون التويتة ولا كاتب البوست شيئاً من ذلك على الأرجح، فلا هو بحاجة إلى خيال إبداعي خصب، ولا عقل تحليلي عميق، ولا اجتهاد إنساني دؤوب. ربما كان هذا أو ذاك مهموماً بقضية ما، لكن اهتمامه بها يأتي على طريقته الخاصة جداً، والانطباعية تماماً. لقد حررت وسائط التواصل الاجتماعي الإنسان المعاصر من ديكتاتورية المعلومات، ووضعته على ناصية فضاء سيبراني يبدو فيه فاعلاً وليس فقط منفعلاً، فصار مصدراً للرسائل وليس فقط متلقياً، لكن الرسائل تلك طالما بدت منفلتة من أي تصور موضوعي أو عقلاني يمكن أن يطلق عليه وصف الحقيقة.

كان التاريخ قد عرف مراراً، منذ عصر القبيلة والقرية ثم المدينة الصغيرة، فالكبيرة وصولاً إلى زمننا الحديث، حكاماً قادوا مجتمعاتهم في كل آن بقوة فكرة ما، سواء كانت دينية أو مذهبية أو عرقية أو حتى خرافية، فكان لزاماً على أحدهم أن يطرح فكرته على رعيته، وأن يبرر لهم لماذا هي أكثر مشروعية من أفكار الآخرين، ولماذا حكمه أكثر أخلاقية أو فاعلية عما سواه من قادة مبرزين، سياسيين أو عسكريين، فإن لم يستطع التبرير والإقناع تعين عليه القسر والإرغام. لم تكن الأفكار دوماً تقدمية، ولا كانت القيادة بالضرورة إيجابية، ولكنها في كل وقت عبرت عن حقيقةٍ ما اتسمت بالصلابة والواقعية.

في نهاية عصر الفكرة ولد الأدب السياسي ودار الجدل حول دور «الإنتلجنسيا»، تلك الطبقة المثقفة المناضلة القادرة على نشر الوعي الثوري وقيادته. كما ولدت التنظيمات الطليعية/الحزبية القادرة على استلام السلطة حال نجاح الثورة كما كان اليعاقبة إبان الثورة الفرنسية، أو البلاشفة إبان الثورة الشيوعية. أنتج هذا العصر مستبدين كباراً من فراعنة وقياصرة وخلفاء وملوك، كما أنتج مصلحين ومؤسسين وفاتحين كباراً أيضاً. أنتج من أسس الدول وعمَّر المدن، ومن خرَّب هذه وأحرق تلك، وعمم الخراب على الجميع، وصولاً إلى النازية والفاشية والستالينية، التي ربما كانت آخر حماقات عصر الفكرة.

منذ السبعينات على الأكثر، أصبحنا في عصر الصورة، ولم تعد الأفكار الكبرى مهمة للقائد السياسي. فالمهم هو حسن عرض وترويج المتاح منها. لم تعد الأفكار تقاس بعمقها بل بمساحتها، أي حاصل ضرب طولها بعرضها، وعندئذ صار العالم أقرب إلى مسطح كبير يزداد اتساعاً من دون عمق، ولا نعني هنا العالم الطبيعي الذي اتخذ مساراً عكسياً تماماً لما ندلل عليه هنا بفضل التقدم العلمي، بل العالم السياسي، القائم على طلب السلطة، والتنافس عليها عبر خطابات طالما تصارعت حولها، متوسلة تلك القدرة على الإيهام والمراوغة والتحايل في الأغلب.

دعك عنك، أيها الزعيم السياسي، المهمة الشاقة في صوغ حقائق مركبة، فلا عليك إلا أن تومئ بوعود براقة، والأفضل أن تبقى مبهمة.

أتى هذا العصر بقادة مراوغين، طالما كانت وعودهم أكبر منهم، وأحياناً كان للرجال المحيطين بهم سطوة عليهم أكثر من سطوتهم هم على الجماهير. فقد أصبح المصور البارع صاحب اللقطة الأخاذة، والمخرج التليفزيوني البارع في الإيحاء والتلوين فاعلين سياسيين، كونهم صناع الطلة الأخيرة التي يتجلى بها الزعيم، وبها يكسب القلوب ويدير العقول، فيصوت النساء للزعيم الوسيم، ويتحمس الشباب للزعيم المقدام، ويبدي الكبار احترامهم للزعيم الحكيم، على رغم أنه قد لا يكون وسيماً ولا مقداماً ولا حكيماً من الأصل. وربما كان السيد أوباما آخر حكام عصر الصورة، فلا تقدميته كأسود أفادت السود ولا تسامحه الذي أبداه إزاء المسلمين قلل من مآزقهم، ولا تعاطفه البدئي مع الفلسطينيين حل قضيتهم، ولا ثقافته وصورته كخطيب مفوه صانع أحلام كبيرة في تغيير أميركا والعالم كانت كافية لصنع هذا التغيير، فلم يتغير إلا هو نفسه، عندما بدا عجوزاً بطيئاً عاجزاً عن ملاحقة عالمه وليس تغييره.

في الزمن الراهن، حيث التغريدة والبوست صارا سيدين للموقف، يبدو الأمر أكثر عبثية، فقد مات المؤلف كلياً وليس فقط عيادياً، واستأسد القارئ، وفق رولان بارت. تراجعت القيادات وتقدمت الجماهير، ولأن الجماهير الغفيرة لا تكترث بالأفكار فقد صارت المشهدية سيدة الموقف، وهو ما أدركه السيد ترامب على الأرجح، فصاغ مشاهد عدة مستفزة ودرامية، تخيلنا أن استفزازيتها ستهزمه، فإذا بدراميتها تنتصر له. ذلك أن وعي الأولى يتطلب عقلاً نقدياً لم يعد قائماً لدى جماهير واسعة صارت تقتات على لاعقلانية ما بعد حداثية، تتغذى بدورها من جسد مفهوم الحقيقة نفسه. أما الثانية فلا تحتاج إلى أكثر من عقل غريزي، يفكر بما يرغب، حيث يغيب العقل الجمعي خلف أهوائه، غير المسؤولة، ويمارس مغامراته غير المحسوبة، في زمن ما بعد الحقيقة، وما بعد الحداثة.

هنا لا يكمن الخطر في سياسات بعينها، قد تبدو للبعض سلبية، ولكن في اللايقين الذي يصاحب القادم الجديد من عالم المجهول، على رغم كل ما دار ويدور من جدل حوله، فالمتداول هنا ليس الحقيقة ولا أي صورة عنها أو قريبة منها، بل السراب والأوهام، وتلك لا تصنع يقيناً إزاء أي شيء!


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة