الأثنين ١٣ - ١ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: كانون الأول ١٩, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
شعبويات الغرب غير شعبويات الشرق الأوسط - وحيد عبدالمجيد
جدل واسع يثيره الارتداد السياسي والثقافي في دول كان متصوراً أن التقدم الذي حققته صار راسخاً، ولا يسمح بصعود نزعات مخالفة لثقافة الحرية والمساواة والانفتاح. ونجد ضمن هذا الجدل محاولات لفهم طبيعة الاتجاهات الارتدادية التي ازدادت في دول أوروبية، ووصلت إلى الولايات المتحدة.

ونلاحظ في هذه المحاولات اختلافاً في تحديد ماهية الارتداد الراهن، وهل يُعبر عن اتجاهات محافظة غير تقليدية، أم ليبرالية جديدة، أو نسخة أخرى منها، أم يمينية متشددة، أم قومية متطرفة، أم أصولية قومية-دينية. والحال أن فيه شيئاً من كل هذه الاتجاهات التي تقع في الربع الأخير على يمين الخريطة السياسية.

لكنّ أياً من هذه الاتجاهات لا يكفي للتعبير عن الارتداد الراهن. وإذا أمعنا النظر في الحالات نجد في كل منها شيئاً من توجهات تقع فعلاً في يمين الخريطة السياسية.

غير أن أكثــــر ما يجــمعـــها ميـــل شعبـوي لا تخطئه العين حين تُدقّق في تفاصـــيله. يأخــــذ هذا الميل أشكالاً متنوعة، لكنه يعبر في المجمل عن أهم مقومات الشعـــبوية، كحـــالة غوغائية تنتج غالباً عن تفاقم أزمة نظام الحكم، أو المجتمع، أو في كليهما، وتقوم على استثــــارة مشاعر قومية أو إثنية، والاحتفاء بتدين احتفالي يرتبط باستعادة قيم تقليدية سابقة على الحداثة.

والشعبوية مفهوم معروف في حقل الحكومات المقارنة (أحد فروع العلوم السياسية) منذ السبعينات، وحاضر في بحث الأنظمة الاستبدادية إلى جانب مفهومين آخرين هما الشمولية والتسلطية. ولا يحول ذلك دون استخدامه في محاولة فهم ظواهر ارتدادية في دول ديموقراطية ما دامت مقوماته الأساسية موجودة فيها. لكنْ، ينبغي في الوقت نفسه تأمل الفرق بين الأوضاع في بلاد تعبّر الشعبوية فيها عن استعصاء على الديموقراطية، وأخرى تظهر فيها في سياق ارتدادات سياسية وثقافية تبدو قابلة للاستمرار لفترة يصعب توقع مداها، ولكنها ستُعد على الأرجح بالسنوات وليس بالعقود.

لذلك، يبدو التقرير الذي أصدره مجلس أوروبا للعلاقات الخارجية، الشهر الماضي، مُعبّراً عن هواجس، وليس عن رؤية تحليلية، حين ينطلق من أن ما يسميه «النظام الليبرالي الأوروبي» قد يكون على وشك الانهيار، وأن 2017 سيكون حاسماً في هذا المجال بسبب انتخابات ستُجرى في فرنسا وألمانيا وهولندا، وربما إيطاليا.

ويغفل هذا التقرير أن الارتدادات الراهنة تمثّل رد فعل سياسياً على اختلالات تفاقمت في معظم النظم الديموقراطية الغربية، أكثر مما تعبّر عن حالة ثقافية لها جذورها العميقة في تكوين المجتمع، على رغم أن آثارها تمتد بالضرورة إلى هذا التكوين وتلك الحالة.

ولا يحمل ارتداد هذه ملامحه طابع العودة إلى ما قبل عصر التنوير الثقافي والديموقراطية السياسية. فليس متوقعاً أن يدور التاريخ دورة كاملة بسبب قدرة النظام الديموقراطي على التصحيح، وقوة الثقافة الديموقراطية على رغم الاهتزاز الذي أصابها.

وهذا هو الفرق المهم بين شعبوية يجوز القول بمعنى ما إنها عابرة في الغرب، وأخرى مقيمة في منطقتنا إلى حين، ومرتبطة ببدائية تُعشّش في أعماق مجتمعاتنا.

لقد التحق مواطنون غربيون نشأوا في ظل ثقافة ديموقراطية بأحزاب وحركات شعبوية، واقترع كثير منهم لمرشحين شعبويين، بحثاً عن بديل سياسي، وليس عن مُنقذ أو مُخلّص خارج المجال السياسي. ولا يعني اقتراعهم لمرشح من خارج الطبقة التقليدية نكوصاً عن السياسة بالمطلق، بل البحث عن سياسة أخرى بديلة.

ويختلف ذلك عما يتخيله أتباع الشعبوية في هذا البلد أو ذاك في منطقتنا حين يبحثون عن مُخلّص، سواء كان فرداً، أو تنظيماً (يكون غالباً دينياً أو عرقياً)، ويظنون أنه قادر على إنقاذهم.

لذلك لا يوجد أساس حتى الآن لتصور أن الشعوب الغربية، والشعوب في معظم جمهوريات الشرق الأوسط، صارت في الهم سواء. فقد نهلت الشعبوية في هذه الجمهوريات من ثقافات مجتمعية متخلفة فزادتها تخلفاً، وتجلت في ديكتاتوريات سافرة أو مستترة جرَّفت مجتمعاتها، وجفَّفت ينابيع المشاركة المجتمعية الحرة، وكرَّست ثقافة انتظار المُنقذ.

وبخلاف الشعبوية الغربية الراهنة التي يُثبت من خلالها ناقمون على جمود النظام الديموقراطي أنهم يستطيعون التغيير، تعبر الحالة الشعبوية بأشكالها المتعددة في منطقتنا عن افتقار إلى الثقة بقدرة البشر على التغيير أو عن خوف من تغيير يقود إلى مجهول، خصوصاً بعد ما حدث لثورات الربيع العربي.

ولأن الشعبوية في منطقتنا ارتبطت بديكتاتوريات تغلق المجال العام، ولا تترك مساحة لتراكم الوعي في المجتمع، يفتقد من يعيشون في ظلها القدرة على التصحيح حين يدركون أن من تصوروه مُنقذاً جعل بلدهم في حاجة إلى إنقاذ، وباعهم وهم الخلاص على يديه. لذلك ينتظرون مُنقذاً آخر ما دام مستوى وعيهم العام لا يسمح بالخروج من الصندوق الذي أُغلق عليهم، فصار خروجهم منه صعباً، لكنه ليس مستحيلاً، بل قابل للتحقق في نهاية المطاف.

وليس هذا إلا القليل من أوجه اختلاف كثيرة بين الشعبوية في منطقتنا وفي الغرب. ونجد أحد هذه الأوجه في نظرة مجتمعاتنا ومجتمعاتهم إلى مفهوم «البطولة» الذي يؤثر في أنماط العلاقة بين الشعوب والحكام. فقد أصبح هذا المفهوم مرتبطاً في الغرب بالقدرة على التفكير واستخدام العقل وحسن التدبير في إطار منظومة حديثة تتيح إطلاق طاقات الأفراد الذين يغضبون حين يصيبها العطب، ولكن معظمهم لا يبحثون في الواقع عن أبطال منقذين خارقين للعادة كمن يوجدون في أفلام تداعب خيال الأطفال والمراهقين مثل «باتمان» و «سبايدرمان» وغيرهما.

ويمكن أن نجد في بعض هذه الأفلام نفسها رسائل ضمنية تفيد بأنك لا تستطيع أن تقنع كثيرين بأنك خارق للعادة، وفي أفلام أخرى رسائل شبه صريحة في هذا المعنى مثل آخر إبداعات المخرج الأميركي ميل غيبسون السينمائية «هاكسو ريدج»، الذي تفيد رسالته بأن البطولة تكمن في نور العقل، وليس في قوة العضلات، حتى في حالة الجندي الشجاع ديزموند الذي خاض معركة أوكيناوا خلال الحرب العالمية الثانية.

لكن الكثير من شعوب الشرق الأوسط لم تدرك بعد أن بطولة ديزموند هي ما تحتاجه، وأنها ما زالت تنتظر باتمان، فإذا خاب أملها انتظرت سبايدرمان، أو العكس.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة