الخطاب العربي مهووس بنظرية المؤامرة، هذه خاصية متواصلة فيه منذ عقود، بل ربما منذ قرون، إذ إنّ ضعف المعرفة التاريخية من جهة، والرغبة في البحث عن «شماعات» تعلق عليها خيبة الانتظارات غير الواقعية من جهة أخرى، غذّيا فيه منذ فترة بعيدة هذه الخاصية وحوّلاها إلى آلية من الآليات العميقة لاشتغاله، سواء عندما يقرأ أحداث الماضي أو يقرأ الأحداث في الحاضر.
ولقد منحت الثورات العربية ومآلاتها الكئيبة هذا الخطاب فرصة جديدة لتدعيم هذا الهوس لديه، مثلما حصل قبل ذلك بسنوات بمناسبة تفجيرات 11/09 الإرهابية، فبفضل هذين الحدثين الجللين، استعادت نظرية المؤامرة الزخم الذي كانت تحظى به في الستينات أيام المدّ القومي وصراع أجنحته المتناحرة، مع تغيير وجهة المؤامرة من العروبة إلى الإسلام. ذلك أنه بقدر ما يتم توسيع المؤامرة و»تعويمها»، يسهل حشر عدد أكبر من الأحداث ووضعها في سلة واحدة لتأكيد الشعور بحقيقتها، من اضطهاد أقلية الأويغور في الصين إلى تدمير حلب وتفجيرات إسطنبول وتنامي الإسلاموفوبيا في الغرب، الخ.
إن شجب خطابات المؤامرة لا يعني نفي وجود مؤامرات، فلا شك في أن التاريخ مملوء بأحداث يمكن أن تصنف في هذه الخانة، وأن الأحداث الحالية تتأثر أيضاً بما يمكن أن يعتبر مؤامرات، لكن ما ينبغي شجبه هو تفسير كلّ حدث بمنطق المؤامرة، والخلط بين التآمر والبحث عن تحقيق المصالح. وإذا قامت جهة معينة باستغلال وضع معين لتحقيق مصالحها، فهذا لا يصحّ أن يعدّ من باب المؤامرات، لأن الصراع السياسي في جوهره صراع على المصالح، وإذا انتشر الخلط بين الأمرين عدّت كل الأحداث السياسية مؤامرات، في القديم كما في الحاضر.
ومن المفارقات أننا نعيش حالياً عصراً دعي بعصر المعلومات، يفترض أن توفّر فيه وسائل الاتصال الحديثة والمعممة آليات متطورة لتبادل المعلومة، بما يجعل الواقع شفافاً أمام الجميع. لكن العكس هو الحاصل، فالكم الهائل من المعلومات المتداولة كل لحظة يضعف القدرة على التثبت والتحليل والنقد ويشجع الالتجاء إلى التفسير بالمؤامرة، باعتبار هذا التفسير بسيطاً ونمطياً يمكن تطبيقه على كل واقعة من دون الحاجة إلى جهد في التجميع والدرس، وبذلك يشعر كل شخص بأنه مؤهل لتقديم رأيه في كل ما حدث ويحدث على سطح الأرض من دون أن يكلف نفسه شيئاً، وأن يشعر بالاغتباط لكونه قد تفطّن إلى خفايا ما كان يراد أن يحجب عنه.
وبالتوازي مع تخمة المعلومات التي تقتل الحس النقدي، يتميز عصرنا الحالي بتعقّد آليات الفعل السياسي، بسبب التحوّل من مرحلة الحرب الباردة التي كان فيها قطبان عملاقان يتقاسمان العالم إلى عالم جديد يضمّ قوى دولية وإقليمية متعدّدة تتعارض مصالحها وخططها.
وثمة أيضاً سبب آخر، هو انتقال جزء مهم من الفعل السياسي من الحكومات إلى هيئات غير حكومية، محلية أو معولمة، أو لنقل قوى ضغط (لوبيات)، ليست كلها «شريرة»، فهي تضمّ المنظمات الحقوقية والجمعيات المدافعة عن البيئة وكبار مصنعي السيارات مثلما تضم تجار الأسلحة ومؤسسات النفط. وإذا كانت متابعة سياسات الدول متاحة نسبياً، فإن متابعة هذه الهيئات غير الحكومية في نشاطاتها وفهم طرق عملها يعدّ أكثر عسراً بحكم حداثة الظاهرة. ولقد تضخم دورها في السياسات المحلية والدولية من دون أن تتطوّر طرق دراستها. لكن هذه الهيئات تخضع للمنطق ذاته الذي تخضع له الدول، فهي تدافع عن مصالح ورؤى معينة، وهذا في ذاته ليس مؤامرة.
يحتاج الواقع العربي أن يقرأ اليوم قراءة موضوعية وعقلانية تتنزل في هذا الإطار، فلا يحافظ على أسطورة الربيع العربي ولا يغرق في نظرية المؤامرة على العرب أو الإسلام، وإنما يحلّل بدقة عوامل الهشاشة في نظامه القائم والمصالح التي تحيط به وتسعى إلى الاستفادة من هذه الهشاشة. آنذاك يمكن أن نفهم ما حدث وما يحدث، ثم بخاصة أن ندرك كيف ينبغي أن يكون التصرف لإعادة الاستقرار في منطقة باتت الأكثر اضطراباً في العالم.
وإذا كانت تفجيرات 11/09 ثم الثورات العربية قد دفعت باتجاه تعميق نظرية المؤامرة، فلعلّ ارتقاء دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية قد يساهم في التخفيف ولو قليلاً من هذا المنزع. فهــذا الرجل يمكن انتقاده في أشياء كثيرة إلاّ صراحته الفجّة في التعبير عما يراه مصالح بلاده، فهو على الأقلّ مزعج بسبب حب الظهور وسلاطة اللسان، لكن لا يمكن أن يتهم بالتخفي والمؤامرة! |