في اتجاهين متوازيين، أحدهما سياسي والآخر عسكري، جاء التحرك المصري للتعاطي مع الأزمة الليبية. فسياسياً، وبعدما تمخض اجتماع دول الجوار الليبي في تونس في تموز (يوليو) 2014، عن تشكيل لجنتين، أولاهما أمنية تقودها الجزائر، وثانيتهما سياسية تتزعمها مصر، لم تدّخر الأخيرة وسعاً في العمل بدأب عبر الجامعة العربية والأمم المتحدة لحشد دعم دولي سياسي وعسكري للحكومة الليبية الموقتة برئاسة عبدالله الثني، بالتوازي مع السعي الحثيث لجمع الفرقاء الليبيين حول مائدة حوار من خلال استضافة جلسات مشاورات متتالية، للبحث في تسوية للأزمة الليبية، تتأسس على ثوابت من قبيل: استبقاء مجلس النواب ممثلاً لآمال وتطلعات الشعب الليبي في الوحدة والأمن والاستقرار، الحفاظ على تماسك المؤسسات الليبية، ومن بينها الجيش الوطني الليبي برئاسة المشير خليفة حفتر، وإنهاء حظر تزويده السلاح، وتقويض مساعي شق صفه وإضعافه، وتقديم أشكال الدعم للمؤسسات الأمنية الليبية وتعضيدها ببرامج التدريب والتأهيل، حتى يتسنى لها الاضطلاع بدورها الناجز في مكافحة الإرهاب.
وعلى الصعيد العسكري، وبعدما ظلت القاهرة ترهن أي تدخل عسكري من جهتها في ليبيا بمطالبة الليبيين أنفسهم عبر حكــومة الوفاق الوطني، أو استشعار تهديدات مباشرة للأمن القومي المصري من داخل ليبيا، ثم مواصلة المجتمع الدولي تمديد حظر تصدير السلاح للجيش الوطني الليبي، أعلن الجيش المصري، بالتنسيق مع حكومة الوفاق والجيش الوطني الليبيين، في شباط (فبراير) 2015، عن قيامه بضربة جوية ضد مواقع لتنظيم «داعش» في مدينة درنة، عقب بث التنظيم شريط فيديو يُظهر فيه عدداً من عناصره يذبحون 21 قبطياً مصرياً مختطفين في ليبيا.
في غضون ذلك، أعلن الرئيس السيسي دعم مصر للجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، باعتباره الطريق الأمثل للتخلص من الإرهاب ودعم وحدة الدولة الليبية واستقرارها. وتوطدت العلاقة بين القاهرة وحفتر منذ إطلاق الأخير عملية «الكرامة» ضد الجماعات المتشددة في بنغازي.
ولم يخفِ حفتر الدعم المصري له، إذ تحدث إلى صحف عدة عن المساعدات اللوجيستية التي تلقاها من القاهرة، فيما أكدت تقارير استخبارية تلقيه أسلحة وذخائر مصرية إبان عملية «الكرامة». كذلك، لم يستبعد محللون ليبيون دعم القاهرة عملية «البرق الخاطف»، مستشهدين بإعلان وزير الخارجية المصري سامح شكري دعم بلاده التام لسيطرة الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر على موانئ الهلال النفطي، ووصفه بيانات دول طالبت الجيش الليبي بالانسحاب من تلك الموانئ، بأنها «دعوات متسرعة لا تراعي الاعتبارات الخاصة بالأوضاع الداخلية لليبيا»، ثم بدعوة المستشار القانوني لقوات حفتر، في مداخلة له على قناة فضائية مصرية، عقب سيطرة قوات جيش حفتر على منطقة الهلال النفطي، إلى حق الشعب المصري في الإفادة من النفط الليبي نظير المساعدات التي قدمتها القاهرة لعمليتي «الكرامة» و«البرق الخاطف»، كما اقترح تصدير النفط الليبي إلى مصر بالجنيه المصري تلافياً لإثقال كاهلها بأعباء نزيف العملة الصعبة.
وبينما ترى القاهرة في حفتر صمام أمان في مواجهة الجماعات المتطرفة في ليبيا، لا سيما تلك المتمركزة في المناطق الشرقية المتاخمة للحدود المصرية، إلا أن تفاهم القاهرة مع حفتر قوبل بارتياب ليبي وإقليمي ودولي لافت. وناشدت حكومة الوفاق الوطني، في بيان لها، الدول الصديقة والشقيقة للتدخل بغية المساعدة لحل الخلاف الليبي بالطرق السلمية تحقيقاً لروح الوفاق.
ودوليـاً، دانت أميركا وفرنسا وألمانيا وإيطــاليا وإسبانيا وبريطانيا، ما اعتبرته «هجمات» على الموانئ النفطية، ودعت في بيان قوات حفتر إلى الانسحاب فوراً، مؤكدة عزمها تنفيذ قرار سابق لمجلس الأمن الدولي يهدف إلى منع تسويق أي صادرات نفط «غير مشروعة».
وبينما ارتدّت المساندة المصرية لحفتر سلباً على العلاقات المصرية- الأميركية خلال العامين الماضيين في ظل الريبة التي تشوب نظرة البنتاغون للأخير، يبدو الأمر مغايراً نسبياً بالنسبة إلى موسكو، التي فتحت زيارة حفتر الثانية إليها قبل أيام، مجالاً لتطاير إشاعات من قبيل عرض حفتر توفير قاعدة عسكرية للروس في شرق ليبيا، لقاء حصوله على دعم موسكو لمواجهة الميليشيات في الغرب وحكومة الوفاق التي تستند إلى دعم مزدوج من هذه الميليشيات والمجتمع الدولي.
وبدورها، شكَّلت البيئة التي تصوغ القاهرة في ظلها سياستها إزاء الأزمة الليبية، تحدياً بارزاً أمام أي تحرك مصري في هذا الصدد، فمنذ اندلاع الثورة في شباط (فبراير) 2011، تحولت ليبيا إلى مصدر تهديد مباشر للأمن القومي المصري، خصوصاً في حال الانقسام الحادة التي أطبقت على المشهد السياسي الليبي والتي أفرزت جناحين للسلطة لكل منهما مؤسساته، الأول معترف به دولياً في مدينة طبرق في شرق البلاد، ويتألف من: مجلس النواب، الذي تم حله من المحكمة الدستورية العليا، وحكومة عبدالله الثني المنبثقة عنه، إضافة إلى ما يسميه هذا الجناح بـ «الجيش الليبي». أما الجناح الثاني، وهو في العاصمة طرابلس، فيضم المؤتمر الوطني العام، ومعه رئيس الحكومة عمر الحاسي، فضلاً عما يسميه هذا الجناح هو الآخر بـ «الجيش الليبي».
ولم يساهم انتقال المجلس الرئاسي، الذي تم تشكيله بموجب اتفاق الصخيرات في ١٧ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، إلى طرابلس في إنهاء الانقسام السياسي والصراع العسكري بين الشرق والغرب، وعلى رغم نجاح المجلس حتى الآن في تثبيت أقدامه وتأكيد وجوده على الأقل سياسياً، وإزالة العقبات التي يمكن أن تساهم في تقليص حدة التوتر والخلافات مع القوى التي كانت تسيطر على الغرب الليبي، خصوصاً قادة ما يعرف بـ «فجر ليبيا» التي تتكون من قوى إسلامية متشددة، لا يزال البرلمان متمسكاً بالبقاء في طبرق ويرفض الانتقال على غرار المجلس الرئاسي.
التعاطي المصري مع المسألة الليبية، والمستند إلى اعتبارات أمنية تتصل بدحر الإرهاب ومناهضة صور الجريمة المنظمة المتفشية على طول المنطقة الحدودية بين البلدين (1100 كم)، مع غياب القانون والسلطة المركزية والمؤسسات العسكرية والشرطية الفاعلة داخل ليبيا، وأخرى اقتصادية تتعلق بمصير ما يقارب المليوني عامل مصري كانوا يقيمون في ليبيا قبل سقوط القذافي. فضلاً عن 18 بليون دولار، شكَّلت حجم الاستثمارات الليبية في مصر حتى العام 2013، هذا التعاطي يواجه منافسة ومزاحمة من أطراف ليبية وأخرى إقليمية، إضافة إلى ضغوط هائلة من قوى دولية عدة. فعلى مستوى الداخل الليبي، برزت مساعٍ لتقليص الدور المصري، سياسياً وعسكرياً، وفي هذا الإطار توالت زيارات المسؤولين الليبيين إلى الجزائر، التي طالما أعلنت رفضها التعامل الرسمي مع أي طرف غير معترف به من المجتمع الدولي، وتصديها لأي تقدم لقوات حفتر باتجاه الحدود الجزائرية، بغية دفعها للعب دور أكبر في الأزمة الليبية يوازِن الدور المصري، والذي يرمي، إلى «تغيير عدد من بنود اتفاق الصخيرات»، خصوصاً ما يتعلق بقيادة الجيش وموقع حفتر في المرحلة المقبلة، من خلال استدراج زعماء القبائل في المنطقة الشرقية لعقد مؤتمرات في مصر لدعم قوات حفتر، ورفض الاعتراف بشرعية المجلس الرئاسي المنبثق من اتفاق الصخيرات.
وإقليمياً، يصطدم الدور المصري بتحركات لأطراف عربية لا تتورع عن دعم قوى متطرفة ترفض الشرعية وتسيطر على مطار العاصمة طرابلس وتحاول الإبقاء على البرلمان القديم على رغم انعدام شرعيته، وترفض الاعتراف بالحكومة المنتخبة، كما تحاصرها اتهامات بدعم جماعات الإرهاب التي تهدد أمن مصر من جهة حدودها الغربية، بهدف فتح جبهة غربية مع الجيش المصري لتشتيت جهوده في مكافحة الإرهاب، بين سيناء في الشرق والحدود الليبية غرباً.
أما على الصعيد الدولي، فقد تنامى مستوى حساسية القوى الكبرى حيال أي تحرك مصري داخل ليبيا، وفي كانون الثاني (يناير) 2015، استبعدت مجموعة الاتصال الدولية في شأن ليبيا، الخيار العسكري لحل الأزمة وشددت في البيان الختامي لاجتماع المجموعة في أديس أبابا، على ضرورة الحوار كسبيل وحيد لتحقيق السلام المستدام والأمن والاستقرار والمصالحة.
وفي السياق ذاته، وقَّعت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا بياناً مشتركاً يحذّر من مغبة التدخُّل الخارجي في الشأن الليبي تجنُّباً لاندلاع صراع إقليمي دولي. وأشار البيان إلى عزم واشنطن التخطيط لتدخل جديد في ليبيا بمشاركة قوات دولية يغلق الباب أمام أي تدخل خارجي. وفي ظل أجواء التوتر التي خيَّمت على العلاقات المصرية- الأميركية خلال الأعوام الثلاثة المنقضية، لم تتورع إدارة أوباما عن توظيف المشكلة الليبية كورقة ضغط على نظام الرئيس السيسي. وهو السبيل الذي يأمل المصريون بألا تواصل إدارة دونالد ترامب السير عليه في مقبل الأيام.
* كاتب مصري |