أبدى البابا فرنسيس جرأة أدبية كبيرة عندما قرّر القفز من فوق ركام الخلافات الدينية مع الكنائس البروتستانتية من أجل تحقيق الوحدة المسيحية.
تتمثل هذه الجرأة في الأمور الآتية:
أولاً: الانفتاح على الكنائس البروتستانتية على رغم استمرار الاختلافات اللاهوتية معها. وكانت زيارته إلى السويد في مطلع شهر تشرين الثاني – نوفمبر أول خطوة عملية في هذا الاتجاه. ذلك أن السويد تدين باللوثرية التي رفضتها وحاربتها الكنيسة الكاثوليكية طويلاً.
ثانياً: دعوته الى إعادة النظر، بـ"صدق ومحبة" في تاريخ الصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا التي أدت إلى سقوط الملايين من الضحايا من الجانبين.
ثالثاً: إعلانه الاعتراف بالخطايا السابقة... وطلبه الصفح عما جرى.
رابعاًً: اعترافه – ولأول مرة في تاريخ الكاثوليكية - بأن الحركة البروتستانتية ساهمت في وضع الكتاب المقدس (الإنجيل) في موقع مركزي في حياة الكنيسة. وذهب البابا في وصفه ما قامت به تلك الحركة بالإصلاح، وهو الاسم الذي أطلقته على نفسها منذ انطلاقتها قبل نصف قرن.
لقي هذا الموقف التاريخي والجريء من المرجع الكاثوليكي الأول في العالم استجابة سريعة من المراجع البروتستانتية، وخاصة من الكنيسة اللوثرية (الواسعة الانتشار في الدول الاسكندينافية على وجه خاص)، فالأمين العام للاتحاد اللوثري القس مارتن يونغ وفي رد فعل مباشر، دعا إلى إعادة بناء العلاقات مع الكنيسة الكاثوليكية على أساس المبدأ الذي يقول إن "كل الكنائس هي أغصان من شجرة واحدة". كما دعا الى طيّ صفحة الصراع الذي اتسم بالعنف وبمحاولة الغاء الآخر.
هذا التطور في العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية (التي تعتبر نفسها أصل المسيحية)، والكنائس البروتستانتية التي انشقت عنها، يقدم درساً مجانياً للمسلمين سنّة وشيعة. فكما هو الأمر بين الكاثوليك والبروتستانت الذين يوحدهم الإيمان بالمسيح وبالمعمودية، وبالإنجيل المقدس، كذلك فإن السنّة والشيعة يوحدهم الإيمان بالله الواحد وبالقرآن الكريم، وبالنبي محمد عليه السلام، وبأركان الاسلام الخمسة.
جرت محاولات عديدة في السابق لـ"التقريب بين المذاهب" ولكنها لم تصل إلى نتيجة. ذلك أن كل تلك المحاولات لم تكن تنطلق من الاعتراف بالاختلاف بل من محاولة تصحيحه (؟). وبالتالي لم تقم على قاعدة الاعتراف بالاجتهادات المتباينة بل باحتكار الحقيقة الفقهية. ومع أن المذهبية هي "وجهة نظر" كما وصفها العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله فإن المسلمين لم يتوافقوا حتى الآن على المبدأ الذي توافقت عليه الكنائس المسيحية المتعددة. وهو أن للحقيقة وجهات نظر مختلفة.
لقد اكتشفت الكنيسة الكاثوليكية أن توظيف الاختلافات اللاهوتية في مشاريع سياسية لا يخدم الدين، ولا الكنيسة، ولكنه يسيء إليهما معاً. وجسدت تخليها عن هذا التوظيف بجرأة كبيرة في الوثيقة التي صدرت عن المجمع الفاتيكاني الثاني (نوسترا إيتاتي – أي حالة عصرنا) التي صدرت في عام 1965. ففي تلك الوثيقة قلبت الكنيسة الكاثوليكية صفحة الصراع مع الكنيسة الأرثوذكسية، وفتحت صفحة جديدة معها، قائمة على أساس الاعتراف والاحترام.
وإذا كانت الصفحة الجديدة التي يفتحها اليوم البابا فرنسيس مع الكنائس البروتستانتية جاءت بمبادرة منه، فإن الصفحة التي فتحت مع الكنائس الأرثوذكسية جاءت بمبادرة من مجمع كان يتألف من 2450 أسقفاً وبرئاسة البابا أيضاً (يوحنا الثالث والعشرين ثم بولس السادس). فقد ألغى المجمع كل الأحكام الصادرة بالحرمان ضد بطاركة وسينودس القسطنطينية، وهي الأحكام التي أدت في عام 1054 الى أحداث مأسوية بين الكنيستين الشرقية (اسطنبول) والغربية (روما).
لقد ذهبت الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية في صراعاتها إلى حد الاحتراب، مما أدى الى سقوط دول، وإلى قتل الملايين من الناس. وها هي الكنائس اليوم تطوي تلك الصفحات السوداء من تاريخها بحكمة وبروحانية عالية وباعتراف بالخطأ وبطلب الغفران والمسامحة لتحقق الوحدة الإيمانية في إطار التعدد الكنسي.
صحيح أن الصراعات بين المذاهب الإسلامية اتسمت أيضاً في مراحل عديدة، وخاصة في بداياتها الأولى بالعنف الدموي، إلا أنها لم تذهب إلى ما ذهبت اليه الصراعات الكنسية، الأمر الذي يفترض أن يجعل من عملية طي الصفحات السوداء من تاريخ الصراعات بين المذاهب أكثر يسراً وسهولة. ولكن حتى يتحقق ذلك، لا بد من ان تتوفر جرأة الاعتراف بالخطأ، وحكمة طلب الغفران والمسامحة المتبادلة، ليكون ذلك أساساً لوحدة إيمانية (إنما المؤمنون أخوة) في اطار التعدد المذهبي.
لم يعد للفاتيكان كمرجع أول وأعلى للكاثوليك في العالم (2،2 مليار مؤمن) طموحات ومشاريع سياسية. كذلك لم تعد للكنائس البروتستانتية أدوار سياسية كما كان الأمر في السابق. لقد التزمت كل هذه الكنائس بممارسة دورها الأساس، وهو إعادة الاعتبار إلى الدين كرسالة من عند الله وإلى الإيمان بالقيم الروحانية السامية التي جاءت بها كل رسالات السماء. وقد فتح هذا الالتزام الطريق أمامها لنبذ خلافاتها السابقة ومن ثم للالتقاء مرة جديدة حول الأصول الجامعة والموحدة.
ولا شك في أن إصلاح العلاقات بين المذاهب الإسلامية، وخاصة بين السنة والشيعة يتطلب الاقتداء بإيجابيات تجربة هذا التحول البناء. فتوظيف الدين في مشاريع سياسية أثبت عدم جدواه. بل إن توظيف الدين في السياسة أثبت انه يعود على الدين نفسه، وليس على السياسة فقط، بأسوأ العواقب. وما يشهده الشرق الأوسط من تدهور ومن تراجع في الميادين كافة، دليل على ذلك.
الأمين العام للجنة الحوار الإسلامي - المسيحي |