Deprecated: GetLink(): Optional parameter $Href declared before required parameter $Img is implicitly treated as a required parameter in /home/ademocr/public_html/Arabic/include/utility.inc.php on line 254
الشبكة العربية : المدينة بما هي وعينا لذاتنا - إبراهيم غرايبة
الأثنين ٧ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: أيلول ٢٨, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
المدينة بما هي وعينا لذاتنا - إبراهيم غرايبة
يمكن أن تساعدنا المدينة في فهم التقدم والتخلف والإصلاح والفساد والازدهار والفشل، وكذلك تقدير الممكن عمله أو استدراكه في عالم التطرف ومواجهة التطرف، فالمدينة في عمارتها وتخطيطها وأسواقها والحياة فيها، كما أزماتها وتحدياتها، تعكس بوضوح كاف مدى استيعاب أهلها للخبرات والفنون والتجارب المتراكمة والمتناقضة والمخاوف المهيمنة وتطلعات الناس لتحسين حياتهم أو عجزهم عن ذلك وفشلهم في تقدير المخاوف والأخطار والتحديات المحيطة بهم.

يقول هيغل: يستدل على المجتمعات بالعمارة والشعر والموسيقى، ويقول أيضاً: لقد وضعت الأمم في الفنون أسمى أفكارها. ويمكن الاستنتاج بناء على مقولته أن الأمم تضع في العمارة ما تمتلكه وتختزنه من أفكار ومشاعر وتطلعات. ويقول الشاعر أورخان ولي مستمعاً إلى مدينته اسطنبول، أغمض عيني وأستمع إلى طيور المدينة. أصوات الناس الذاهبين إلى عملهم. شباك الصيادين. أوراق الشجر. الريح الخفيفة التي تسري في المدينة. ويقول روبرت لويس ستيفنسون: دائماً أتذكر مدينتي، فأجعل بيتي مدينة، الكنبة جبالاً والسجاد بحراً، وأبني القلاع والقصور والمعابد والموانئ والمطارات وسكك الحديد والغابات والسفن الآمنة في الخلجان.

لا يمكن تخيل مسار الحضارة والتقدم الإنساني من غير المدينة، فالأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية تبلورت في المدن... كانت المدينة على الدوام تعبيراً عن خلاصة الفكر والتقدم الإنساني، وأنشأ الناس مدنهم معبرين حسياً أو تشخيصياً عمّا في نفوسهم من إدراك للجمال والتقدم ومشاعر وأحاسيس ربما لم يكونوا قادرين على التعبير عنها بغير المدن. هذا التصور للجمال والحياة هو الذي ينظم المدن وإدارتها وتخطيطها والعلاقة والتفاعل بينها وبين الأفراد والمجتمعات.

فالمدن ليست سوى فكرة الإنسان لتنظيم حياته كما يحب وتطبيق تصوراته ومشاعره، هكذا حلّ الشعر والموسيقى والإبداع في التمدن والعمارة والتصميم والأثاث والطهو واللباس والعلاقات الاجتماعية وأسلوب الحياة والاستيطان والخدمات. وفي المقابل، فإن أزمات المدن والناس من الفقر والظلم والكراهية والتطرف والجريمة والاكتئاب والخواء تؤشر إلى الخلل في منظومة العلاقة المنطقية بين الجمال والتعبير عنه في مدن وعمارة.

وتنشئ الثقافة المدن ومجتمعاتها، فلا مجتمع بلا ثقافة، وهذه الثقافة تنشئ في محصلتها الجمال باعتباره فلسفة عمل وحياة يميز بها الإنسان القبيح من الحسن في الأفكار والأعمال والتقييم والمحاسبة والنظر إلى الذات والآخرين والعمل الاجتماعي والسياسي، وهذا الجمال هو الذي ينظم إدارة الأمكنة والمدن.

وينشأ الازدهار والتقدم على قيم جمالية تعلم الناس كيف ينظمون مواردهم ويطورونها، كيف يجعلون بيوتهم وطرقهم وأحياءهم ومدنهم وبلداتهم ملائمة لحياتهم، وكيف تبنى وتصمم لتوفر لهم الدفء والتهوية والإضاءة والخصوصية والسكون، وكيف يجعلون من حياتهم اليومية وأمكنة إقامتهم وعملهم بذاتها وبطبيعة علاقتهم بها مصدراً للرضا والتكافل وتنظيم الاحتياجات الأساسية. كيف تخطط الأحياء والطرق على النحو الذي يجعل الحياة مصدراً للسعادة بلا تكاليف وجهود إضافية؟

ونشأت الرواية والمسرحيات والأعمال الموسيقية والفنون التشكيلية والسينما والدراما باعتبارها تشكيلاً اجتماعياً وثقافياً اقتضته عمليات التمدن ونشوء المدن وتطورها، وكانت على مدى التاريخ وفي جميع الحضارات أداة المدن والمجتمعات لأجل تحقيق الانسجام والسلام في الحياة والعلاقات ولتعويض الروابط التي تشكلت في مجتمعات زراعية ورعوية، ذلك أن المدن تقوم على طبقات من المهنيين والمثقفين وأصحاب الأعمال وقادة الحكم والإدارة، والمؤسسات العامة والتجارية، وتتشكل علاقاتهم الاجتماعية بناء على الأعمال والقيم والأفكار والمصالح المشتركة. ففي الأندية والمقاهي والبيوت، تكون الثقافة والآداب والفنون والموسيقى والرياضة المجال المشترك للأصدقاء والجيران والزملاء، وفي الفضاء المشترك والمزدحم تتشكل الحاجة إلى السكون والخصوصية والثراء، فيحمي أهل المدن أنفسهم من «الخواء» الروحي والاجتماعي بالفردانية، وفي هذا الفضاء الروحي والاجتماعي يتشاركون في الأسواق والمرافق والمؤسسات، وفي الوقت نفسه ينشئون أنماطاً من السلوك والقيم والإشارات والرموز التي تحمي الإنسان بما هو فرد، وتجعل كل واحد منهم يشعر كأن الفضاء له وحده، وتكون المدن وحياتها اليومية قائمة على هذا التشكيل الاجتماعي والثقافي ومستمدة منه.

وفي المقابل يمكن الفهم والتقدير لنشوء التطرف بما هو الفشل في هذه المواءمة المفترضة بين المدينة وحياتها، ولشديد الأسف فإن التمدن لا ينشأ تلقائياً، لكن التطرف والخواء ينشآن بسهولة وتلقائية، وهنا تكون وظيفة المدينة هي الحفاظ على هذه المنظومة وحمايتها وصيانتها باستمرار. 

* كاتب أردني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة