لا تقوم دولة المواطنة في أيّ مكان من العالم إلاّ إذا توافر شرطان:
أولاً، ترسيخ فكرة المواطنة واستيعاب كونها فكرة حديثة، لها جذور في الماضي، لكنها حديثة لا يمكن أن تخلط بأي مفهوم من المفاهيم القديمة. فالمواطنة غير الأخوة الدينية، وغير الحنين إلى الأوطان، وغير الانتماء إلى الأسرة أو القبيلة أو الطائفة. ولا توجد مواطنة إسلامية ومسيحية وبوذية، الخ...، وإن كانت فكرة المواطنة قابلة لأن تجد لها جذوراً وروافد في تراث المسلمين والمسيحيين والبوذيين وغيرهم.
فالمواطنة مفهوم فلسفي سياسي تبلور مع انتقال شكل الدولة في العصر الحديث، شرقاً وغرباً، إلى دولة تحكمها الحدود الجغرافية. ولن ترسخ المواطنة سلوكاً إلاّ بترسيخها مفهوماً، ولن تستقرّ مفهوماً في الأذهان إلاّ إذا رسخت سلوكاً سياسياً صادقاً في المجتمع ولم تكن مجرّد كلمة للاستهلاك والتغطية على مصالح ضيقة.
ثانياً، التمييز بين الهوية السياسية للفرد وهويته الثقافية، على أساس أن الفرد الواحد ينتمي في الغالب إلى هويات متعدّدة، وتعدّد دوائر الانتماء لا يقتضي بالضرورة التنافر والتناقض. فالفرد ينتمي إلى دائرة الإنسانية بصفته إنساناً، وإلى دائرة الإيمان بصفته متديناً، وإلى دائرة الدولة بصفته مواطناً، وقد يرتبط بالأسرة والقبيلة، والطائفة والمذهب، وقد يشعر شعوراً قوياً بالانتماء إلى جماعة الفلاسفة أو الأدباء أو الأطباء، وقد يسخّر نفسه لمشروع عالمي للأعمال الخيرية أو الدفاع عن حقوق الإنسان. إنّ الفرد في العصر الحديث، المنفتح والمعولم، لم يعد قادراً على أن يعيش في دائرة انتماء واحدة، لذلك يجد نفسه مدفوعاً إلى إيجاد ترتيب معقول لانتماءاته المتعدّدة، والترتيب بين بعضها بعضاً كي لا يعيش ممزقاً بينها أو يدمّر بعضها لحساب البعض الآخر فيفقد جزءاً من إنسانيته وعصرانيته.
وكلّ طرح لا يربط المواطنه بالحداثة السياسية يظلّ غارقاً في التلفيق، أو يخادع الناس باستعمال الكلم في غير مواضعه. وكلّ دولة لا تتضح فيها مسألة المواطنة تظلّ مهدّدة في استقرارها واستقلالها. وكلّ مجتمع يحيط عقده الاجتماعي الالتباس لا يحقّق الوئام بين أعضائه.
إنّ عملية تحديد المفاهيم بعامة ليست ترفاً فكرياً، ومن باب أولى أن لا تكون كذلك إذا تعلّق الأمر بإدارة الشأن العام والعلاقة بين البشر. فالمواطنة، مفهوماً، تمثل مدخلاً ضرورياً لتأسيس الدولة الحديثة التي تحقّق السلم الاجتماعي لمواطنيها. ومن المفضّل أن نتحدث اليوم عن دولة المواطنة بدل الدولة الوطنية أو الدولة الأمة، لنتجاوز بعض الإشكالات التي علقت بالعبارة السائدة سابقاً، إذ استعملت أحياناً لطمس حقوق جزء من المواطنين وفرض نمط واحد عليهم جميعاً. وليس المطلوب لإنجاح مبدأ المواطنة صهر الناس جميعاً في قالب واحد، بل اندماجهم وفق الحدّ الضروري الذي يضمن لهم العيش المشترك، أي أنه اندماج لا يلغي لديهم التنوّع والاختلاف، بل العكس، يعتبرهما ثراء إيجابياً ومطلوباً.
ويترتب على المواطنة بهذا التحديد تبعات في مجالات عدة من العيش المشترك، فهي تدفع من الناحية السياسية مثلاً إلى التمييز بين الغالبية بالمعنى السياسي التي هي مسألة متغيرة ومفتوحة على تداول السلطة، والغالبية بالمعنى العرقي أو المذهبي التي تؤثر في السياسة من دون أن تكون محدّدها الأساسي. وتدفع من الناحية الثقافية إلى التمييز بين الذاكرات الجماعية المتباينة والتاريخ المشترك القائم على التنوّع والذي يعتمد في السياسات العامة لأنه وحده القادر على تحقيق القبول من الأطياف المختلفة المكوّنة للاجتماع العام.
إنّ العقد الاجتماعي للعصر الحالي هو عقد مواطنة، والعولمة لم تغيّر هذا المعطى ولم تقدّم بديلاً مقنعاً عنه، لكنها أجّجت في بعض المناطق نزاعات ما قبل الحداثة بسبب ضعف مبدأ المواطنة فيها. فالمواطنة تظلّ الأفق المعقول والمتاح وإن أصبحت أكثر انفتاحاً على التنوّع بسبب هذه العولمة التي لا يمكن أن تقوم بديلاً عنها. |