وفق تقديرات رسمية، فإن عدد الجمعيات الأهلية في مصر يصل إلى 47 ألف جمعية، إضافة إلى 93 منظمة أجنبية تعمل وفق قانون تنظيم الجمعيات الصادر عام 2002. ويتوزع هذا العدد الكبير من الجمعيات على طيف واسع من المجالات والنشاطات التي تغطي محافظات ومدن مصر، لكن ثمة عدداً محدوداً للغاية من جمعيات حقوق الإنسان يثير مشكلات مع الحكومة في شأن دورها، وآليات عملها، ومصادر تمويلها، وعلاقتها بالسياسة بالمعنى الواسع للكلمة، حيث تنشط هذه الجمعيات للدفاع عن حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك حقوق المرأة والتنظيم النقابي وتفعيل المشاركة السياسية ومراقبة الانتخابات. ويمكن تلخيص مشكلات الحكومة مع جمعيات حقوق الإنسان في علاقتها بالخارج، وكيفية المواءمة بين متطلبات البيئة الدولية لحقوق الإنسان وبين ما يعرف بخصوصية المجتمع المصري، حيث ترى الحكومة وقطاع من النخبة والشارع أن تلك الجمعيات تتلقى دعماً مالياً وفنياً من منظمات أوروبية وأميركية أو منظمات أهلية عابرة للجنسيات، ما يؤثر في أولويات اهتمامها ونشاطاتها وما تصدره من تقارير أو تقيمه من ورش تدريب وتأهيل. ويبدو هذا التأثير مفهوماً في ظل العولمة والتشابك بين منظمات حقوق الإنسان عبر العالم، لكن هناك من يرى داخل وخارج الحكومة أن هذا التأثير فضلاً عن التشابك المعولم يمثل شكلاً من التبعية وربما العمالة للخارج كما يشيع في الخطاب الإعلامي المعادي لظاهرة نشطاء حقوق الإنسان. والشاهد أن هؤلاء النشطاء لعبوا دوراً كبيراً في التصدي لحكم حسني مبارك، وواجهوا مشكلات إدارية وقانونية كما تعرضوا خلال سنوات حكم مبارك لمضايقات أمنية وحملات تشويه إعلامي واتهامات بالعمالة للخارج وتلقي أموال طائلة والتربح من دون وجه حق.
وتجدر الإشارة إلى حداثة معرفة مصر الدولة والمجتمع بثقافة حقوق الإنسان ونشاطات جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، فمصر لم تعرف أول تلك الجمعيات إلا في عهد مبارك وبالتحديد عام 1985 عندما تأسست المنظمة المصرية للدفاع عن حقوق الإنسان كفرع للمنظمة العربية لحقوق الإنسان. والمفارقة أن غالبية الذين أسسوا الجمعية المصرية كانوا من المحسوبين على النظام الناصري الذي شهد انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، إضافة إلى بعض عناصر وقيادات اليسار الماركسي الذين تعرضوا لأهوال الاعتقال والسجن في عهدي جمال عبدالناصر وأنور السادات. والمفارقة الثانية أن المنظمة المصرية لم تحصل على موافقة وزراة الشؤون الاجتماعية بوضعها القانوني كمنظمة أهلية، إلا بعد 18 عاماً من إعلانها وممارسة نشاطاتها وذلك بحكم قضائي، ما يشير إلى التعامل غير الإيجابي من الدولة مع تلك الجمعية والجمعيات الأخرى حيث نظر حكم مبارك الى الحركة الحقوقية المصرية باعتبارها حركة سياسية معارضة. لذلك تحايل كثير من نشطاء حقوق الإنسان على قانون تنظيم الجمعيات الأهلية الحالي وأسَّسوا شركات غير ساعية إلى الربح مارسوا من خلالها نشاطاتهم من دون أن يخضعوا لوزارة الشؤون الاجتماعية المنوط بها تطبيق القانون وتنظيم عمل الجمعيات الأهلية.
والحقيقة أن الرؤية السلبية لدور وأداء جمعيات حقوق الإنسان ظلَّت تطارد تلك الجمعيات في عهد مبارك وفي ظل الحكم الانتقالي للمجلس العسكري ثم حكم «الإخوان»، وصولاً إلى الحكم الحالي حيث جرى التحقيق مع عدد من النشطاء العاملين في مجال حقوق الإنسان على خلفية تلقي أموال أجنبية والتهرب الضريبي، رافق ذلك وقبله وبعده هيمنة التفكير بالمؤامرة والذي يربط ببساطة بين نشاط هذه الجمعيات داخل مصر، وبين ما يصدر من انتقادات من منظمات غربية لسجل انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. ووفق هذه السردية، لا مكان لفكرة العولمة وتعاظم أدوار الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني العابرة للحدود، ولا مجال أيضاً لأدوار مستقلة لجمعيات حقوق الإنسان. وبالتالي يخلص أنصار سردية المؤامرة إلى أن جمعيات حقوق الإنسان تلعب دوراً مباشراً في التآمر على الدولة المصرية. لا سيما أن تلك الجمعيات لا تهتم بأخطار الإرهاب وتهديده أمن المواطنين وسلامة المجتمع ولا تعلن مواقف واضحة من الحرب على الإرهاب.
القصد أن الاتهامات التي تلاحق جمعيات حقوق الإنسان ونشطاءها عابرة للنظم السياسية، واستمرت على رغم الأدوار الإيجابية التي قامت بها في التمهيد لما يعرف بثورتي مصر في 25 كانون الثاني (يناير) ضد مبارك، و30 حزيران (يونيو) ضد «الإخوان». ويشير هذا الاستمرار إلى وجود مشكلات حقيقية تتجاوز مقولة أن الحكومة المصرية مثل كل حكومات العالم لا ترحب بنشاطات وتقارير جمعيات حقوق الإنسان. وبالتالي لا بد من طرحها للنقاش بشفافية وعمق يتجاوز الصراع السياسي أو المواقف الحدّية مع أو ضد جمعيات ونشطاء حقوق الإنسان، خصوصاً أن هناك محاولة جادة من الحكومة لإصدار قانون جديد ينظم عمل الجمعيات الأهلية بما فيها جمعيات حقوق الإنسان المصرية والأجنبية، بحيث تتسم إجراءات إشهار وتمويل ونشاطات كل الجمعيات بالشفافية والوضوح، ما يقلص المشكلات الإدارية والقانونية ويحد من فرص تدخل أجهزة الأمن. وقد طرح مشروع القانون منذ عامين لنقاش موسع شارك فيه كثير من الجمعيات ونشطاء حقوق الإنسان، فضلاً عن ممثلين للأحزاب والقوى السياسية. وأتصور أن القانون الجديد لا بد أن يراعي مجموعة من الحقائق الخاصة بنشأة وتطور الحركة الحقوقية ومواردها، فضلاً عن ثقافة حقوق الإنسان في مصر وآليات عمل جمعيات حقوق الإنسان والمشاكل التي تواجهها. في هذا الإطار يمكن إبداء أربع ملاحظات أساسية:
1- لعبت جمعيات حقوق الإنسان دوراً بالغ الأهمية في نشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع المصري، على رغم المناخ غير المشجع الذي أحاط بنشأتها وتطورها، علاوة على الانتقادات التي تلاحقها وتطاول العناصر التي تنتمي إليها، أو ما يعرف بنشطاء حقوق الإنسان. ومن الصعب على جمعيات حقوق الإنسان الاستغناء عن التمويل الأجنبي أو الاستقلال عن الحركة الحقوقية العالمية، بسبب ضعف المجتمع المدني وعدم وجود مصادر مستقلة لتمويل نشاطات حقوق الإنسان في مصر. لكن هناك بدائل تتمثل في تعظيم العمل التطوعي وبالتالي تقليص الاعتماد على التمويل الأجنبي وبناء شراكات مجتمعية يمكن في المستقبل أن تؤمن تمويلاً محلياً وطنياً يدعمه تعاظم العمل التطوعي. من جانب آخر يمكن الجمعيات الأهلية بناء آليات مجتمعية مستقلة للرقابة على مصادر التمويل وضمان التزام كل الجمعيات الأهلية بقواعد الإفصاح والشفافية، وذلك في ضوء قانون تنظيم الجمعيات الجديد ولائحته التنفيذية وبالتفاهم والتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية.
2- لا يوجد بديل أمام الدولة والمجتمع من وجود واستمرار نشاطات جمعيات حقوق الإنسان مستقلة في شكل حقيقي وبالتالي لا داعي لاحتواء أو توظيف جمعيات موالية أو الاكتفاء بنشاطات المجلس القومي لحقوق الإنسان واعتباره بديلاً من الجمعيات المستقلة وممثلاً وحيداً لمصر في المحافل الدولية، وكان المجلس قد تأسس عام 2003 برئاسة بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة كجهة مستقلة، لكن اعتماده على تمويل حكومي أدى الى اتهامه بالتبعية وذلك على رغم انتقاداته المتكررة لأداء بعض الأجهزة الحكومية، سواء أثناء حكم مبارك أو في ظل الحكم الحالي. وأتصور أنه لا غنى عن استمرار المجلس القومي شرط ضمان استقلاله المالي والإداري.
3- ضرورة أن تطور جمعيات حقوق الإنسان نشاطاتها وأدواتها، وتُجدد خطابها، وتبدي قدراً أكبر من الالتزام بالديموقراطية الداخلية والانفتاح على المجتمع عِوض التركيز النخبوي في القاهرة وبعيداً من الريف.
4- إن الصياغة النهائية للقانون الجديد لا بد أن تعالج إشكاليات الإشهار والتمويل بحيث تقلل من الشروط اللازمة لتشكيل الجمعيات الأهلية وتحررها من قيود البيروقراطية وفساد بعض الموظفين، وأن ينص القانون صراحة على النشاطات التي يجوز فيها تلقي دعم مالي أو فني أجنبي، وأن يلزم الجمعية التي تحصل على هذا التمويل أن تُخطر وزارة الشؤون الاجتماعية عن أهداف التمويل وأوجه إنفاقه، وأن يكون من حق الوزارة الاعتراض خلال مدة زمنية لا تتجاوز 21 يوماً. وفي هذه الحالة يحق للجمعية اللجوء الى القضاء للفصل في الخلاف في وقت مناسب. * كاتب مصري |